حسين عبدالحسين
يوم وقّع الرئيس السابق باراك أوباما الاتفاقية النووية مع إيران، كان ووزير خارجيته جون كيري يدركان أنها قاصرة عن تحقيق الأهداف التي تخدم المصالح القومية للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط.
لكن أوباما وكيري كانا يعتقدان أن الاتفاقية هي أول الدرب، لا آخره، وأنه متى بدأ مشوار بناء الثقة مع طهران، وأنه متى بدأت كبرى الشركات الأميركية والأوروبية تضرب جذورها في إيران، فان المصالح المركنتيلية (الإتجارية) الغربية ستتولى الدفاع عن الاتفاقية، وحمايتها مستقبلا.
وفعليا، تنبه النظام الإيراني لضرورة شراء ود الشركات الغربية، فوقّعت حكومة حسن روحاني اتفاقيات بقيمة 30 مليار دولار مع شركة بوينغ الأميركية العملاقة للطيران لشراء طائرات وقطع غيار، ومثلها فعلت مع شركة إيرباص الفرنسية الألمانية مع عقد بقيمة 25 مليار دولار.
كما وقّعت طهران عقدا بقيمة 5 مليارات دولار مع شركة توتال الفرنسية للطاقة، حتى تقوم الأخيرة بتطوير حقل بارس 11 النفطي الجنوبي.
لكن الاتفاقية التي كانت بداية المشوار لدى الأميركيين والأوروبيين، كانت نهايته عند الايرانيين، إذ لم تمرّ أيام حتى أخلّت طهران بتعهد شفهي كان قطعه وزير خارجيتها جواد ظريف لنظيره كيري، وعد فيه بعدم القيام بتجارب صاروخية.
وعندما احتج كيري لدى الإيرانيين، توصّل الطرفان لإلى تصريح لحفظ ماء الوجه قال فيه الأميركيون والأوروبيون إن "إيران تجاوزت روحية الاتفاقية النووية معها، ولكنها لم تتجاوز النص".
ربما اعتقدت إيران أن عقودا بقيمة 60 مليار دولار كانت كافية لشراء الأميركيين والأوروبيين، فراحت تستخدم طائراتها الجديدة لنقل المقاتلين والأسلحة إلى الحرب السورية، واستخدمت عائدات النفط لتمويل الميليشيات الموالية لها في عموم المنطقة، وهي الميليشيات التي ضاعفت من حروبها. كما راحت طهران تستخدم الأموال سرا في أوروبا، في سعيها للحصول على تقنيات مزدوجة الاستخدام يمكنها استخدامها لتطوير برنامجها النووي.
ويوم وصل الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم، لم ينسحب فورا من الاتفاقية النووية مع إيران، بل حاول إغلاق الثغرات التي تركها أوباما، وبدأ مفاوضات عبر الأوروبيين مع الإيرانيين لهذا الغرض، ولما رفضت إيران أي تعديلات، انسحب ترامب بعد سنة ونصف من دخوله البيت الأبيض.
في الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، لا تشكل 30 مليار دولار مبلغا يمكنه تحريك المصالح التجارية، لكن في أوروبا، وخصوصا فرنسا ذات الاقتصاد المتهالك دائما، شكّلت المليارات الإيرانية حافزا كبيرا لمحاولة منع انهيار الاتفاقية مع إيران، على الرغم من كل الثغرات، ودفعت المليارات المذكورة أوروبا للانفصال عن أميركا عندما طلبت الأخيرة الخروج من الاتفاقية.
على أن خروج واشنطن من الاتفاقية النووية وعقوباتها على إيران أوقف كل العقود، بما فيها مع أوروبا، التي حاولت الالتفاف على العقوبات الأميركية وفشلت في ذلك. ومنذ انسحاب أميركا، ما زالت أوروبا، وفي طليعتها فرنسا، تستميت على صداقة إيران وعلى إعادة إحياء الاتفاقية النووية.
وحتى تعود الاتفاقية النووية مع إيران إلى الحياة، هذا إن عادت، يسعى الأوروبيون بكل قوّتهم لمجاملة طهران وخطب ودها لاعتقادهم أن العقود الأوروبية مع طهران مجمّدة، وأنها ستعود يوما.
هكذا، دأب رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون على التدخل في شؤون الدول التي تقع تحت نفوذ إيران، مثل لبنان والعراق. للوهلة الأولى، بدت زيارات ماكرون المتكررة إلى لبنان واهتمام باريس المتزايد بشؤون بيروت عودة "الإمبريالية" الفرنسية إلى مستعمرتها اللبنانية السابقة، حتى أن أنصار "حزب الله" اللبناني الموالي لإيران هاجموا تدخل الرئيس الفرنسي وحنينه إلى الزمن الإمبريالي، ولقاءه الزعماء اللبنانيين وكأنه يعطيهم التعليمات.
لكن أنصار "حزب الله" لم يلاحظوا، أم هم تجاهلوا، أن بين زعماء لبنان الذين شاركوا في الجلسة مع الرئيس الفرنسي كان رئيس كتلة "حزب الله" البرلمانية محمد رعد، الذي عقد خلوة ثنائية مع ماكرون بعد الجلسة.
وأشارت التقارير يومذاك أن الرئيس الفرنسي حاول إقناع الحزب بضرورة المضي قدما في تشكيل حكومة وحدة وطنية لوقف الانهيار اللبناني وإطلاق عملية الاصلاح، وهي سياسة توافق رؤية إيران وحزبها اللبناني وحلفائه للحل في لبنان: حكومة، فإصلاح شكلي، فمساعدات مالية دولية.
لكن "ثورة لبنان" ترى غير ذلك، فلبنان يعيش في ظلّ حكومات وحدة وطنية، منذ عام 2005، لم تنجح أي منها في وقف التدهور أو القيام بإصلاح. مفتاح الحل، حسب ثوّار لبنان، هو الإطاحة بكل الطبقة السياسية، بما فيها "حزب الله"، وإعادة تشكيل العقد الاجتماعي اللبناني بما يتضمن حصر استخدام العنف في أيدي حكومة منتخبة، أي حلّ ميليشيا "حزب الله".
وكما في لبنان، كذلك في العراق، حيث يرى الناشطون، ومعهم أعلى مرجعية شيعية، علي السيستاني، أن مفتاح إنقاذ العراق هو قيام الميليشيات الموالية لإيران بتسليم سلاحها وتطويع أفرادها في القوى الأمنية. ولكنها رؤية حل لا تتناسب وسياسات إيران، ونموذجها الذي تسعى إلى فرضه في لبنان والعراق واليمن وسوريا. لهذا السبب، تقوم الميليشيات الموالية لإيران باغتيال ناشطي الثورة العراقيين، ومثلهم يفعل "حزب الله" في لبنان.
وكما في لبنان، كذلك في العراق، زار ماكرون بغداد متظاهرا أن هدفه هو الإصلاح والإنقاذ، فيما الرؤية التي قدمها حول التسوية بين الدولة والميليشيات هي نفس الرؤية الإيرانية، التي تسعى دائما لتشتيت الانتباه بعيدا عن المشكلة الأساس: أي سلاح الميليشيات الموالية لإيران.
على عكس إدارة الرئيس السابق ترامب، التي كانت ترى حل الميليشيات مفتاحا للحل في لبنان والعراق، ترى إدارة الرئيس جو بايدن، كما ماكرون، أنه يمكن التوصل لحل بالتي هي أحسن، بشكل يرضي إيران ويعيدها للاتفاقية النووية، ويعيد المليارات الإيرانية إلى الشركات الفرنسية.
على عكس ما يسعى لتصوير نفسه، ليس رئيس فرنسا ماكرون صديقا للشعبين اللبناني والعراقي، بل هو صديق الحكام الإيرانيين في البلدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق