حسين عبدالحسين
انشغل اللبنانيون بسطوع نجم مجموعة جديدة من الناطقين باسم الله، مسيحيين هذه المرة، يسمون أنفسم جنود الرب. التقارير اللبنانية تشير الى أن نواة المجموعة تشكلت من مساجين سابقين عملوا حراسا لمصارف لحمايتها من غضب اللبنانيين الذين أحرقوا وكسّروا مصارف بسبب افلاسها وضياع جنى عمر كثيرين.
كما تشير التقارير الى أن عديد المجموعة يصل الى 300 عنصرا، يستعرضون أعدادهم في الشوارع من حين لآخر وهم يرتدون قمصانا سوداء رسموا عليها صليبا ذي أجنحة. ويبدو أن جنود الرب هم الذين تصدوا، قبل عام، لمتظاهري حزب الله الذين عرّجوا على حي عين الرمانة المسيحي في طريق عودتهم من تظاهرة ضد العدالة لضحايا انفجار المرفأ، فاندلعت اشتباكات مسلحة أدت لوقوع قتلى.
على أن أبرز وجوه ”جنود الرب“ يرفضون وصفهم بميليشيا، ويصرّون أنهم مجموعة دعوية غير مسلحة. لكن التنظيم شبه العسكري والقمصان السود تشبه بدايات صعود ميليشيات النازية والفاشية في أوروبا، وحتى بدايات صعود أحزاب لبنانية تمثلت بالفاشية وتسمت بأسمائها، مثل ”الكتائب اللبنانية“ التي بدأت رحلتها كمجموعة قبضايات تشتبك بالعصي والحجارة مع خصومها، ثم تحولت الى ميليشيا ساهمت في تدمير لبنان أثناء حربه الأهلية.
هذه المرة، خصوم ”جنود الرب“، أي ”حزب الله“ الشيعي المسلم، أقوى بما لا يقاس من نظرائه المسيحيين، والأرجح أن لدى أجهزة استخبارات الحزب ومخابرات الجيش اللبناني، التي يسيطر عليها الحزب كذلك، ملفات وصور وأسماء جنود الرب كلهم، وقد يكون عدد المخبرين بين صفوف ”جنود الرب“ أكثر من الجنود أنفسهم.
قد يلجأ ”حزب الله“، على عادته، الى تضخيم خطر ”جنود الرب“ لأسباب متنوعة، غالبا لاثارة الرعب في صفوف مناصريه الشيعة، كما لتبرير الابقاء على دويلته والميليشيا. وسبق لـ ”حزب الله“ في الماضي أن قام بتضخيم خطر داعش السنية في لبنان للأسباب نفسها ولتبرير اشتراكه في الحرب التي دمرت مدن السوريين على رؤس ناسها. وقام فعلا نوّاب سابقون بادعاء أن الولايات المتحدة تكدس الأسلحة في بكركي، في واحدة من نظريات المؤامرة الكاذبة الهادفة الى تلطيخ سمعة المسيحيين المعارضين لاستمرار وجود ميليشيا حزب الله.
جنود الرب هم "مجموعة أولاد" حسب التعبير اللبناني. على أن ما يخيب الآمال في هذه المجموعة هو كمية الضحالة التي تعاني منها. حتى أعتى مجموعات الزعران والقبضايات والميلشيات الفلسطينية واللبنانية التي تشكلت في لبنان على مدى القرن الماضي قدمت أفكارا تنظيمية أفضل، وان كانت أفكارا رديئة وبائسة ومستوحاة من تفاهات راحلين من أمثال المصري جمال عبدالناصر والسوري ميشال عفلق واللبناني انطون سعادة. هذه المرة، لا يقدم جنود الرب فكريا غير الرثاثة التي يعزونها الى نصوص دينية.
ولأن "جنود الرب" أضعف بكثير من مواجهة "حزب الله"، فهم راحوا يستقوون على أضعف فئات المجتمع، خصوصا من مثليي الجنس.
واستخدام الدين ذريعة للعنف والحرب هو سمة المجتمعات السابقة للحداثة. وفي الفكر السحيق أن من علامات التطويب الإلهي لملك ما هو انتصاره على خصومه. لذا حمل الملوك غالبا أسماء تفيد النصر، مثل سلوقس نقفور (اسمه يعني المختار المنصور) مؤسس الامبراطورية السلوقية الاغريقية في ايران والعراق والمشرق، والقادة في التاريخ الاسلامي كالحجاج (الحجة) الثقفي والمختار الثقفي (واسمه يعني المختار المنصور كذلك)، ومثلهم الخلفاء ممن حملوا ألقاب المنصور والمنتصر. كما صكّ غالبية ملوك الاغريق والرومان نقودهم باستخدام نقش النسر نايكي (نفس اسم الماركة الرياضية اليوم) وهو اله النصر الاغريقي، ومنه ينحدر رسم النسر الذي تتخذه دولا متعددة شعارا لها.
وفي الماضي، كانت الرهبنات جمعيات مقاتلة كذلك، وبها ارتبطت أساطير متعددة لأفراد آثروا الموت على التخلي عن دينهم، وفي طليعة هؤلاء سيرجيوس وباخوس. وسيرجيوس، أو جورج أو سركيس، كان يحمل سيفا أو صليبا ويمتطي حصانا، وتحدث من قبره بعد موته وقام بمعجزات، وكانت عبادته واسعة الانتشار بين العرب، حتى أن رسوما في الأردن تظهره وهو يمتطي جملا ويحمل صليبا. حتى القديس سمعان العمودي، الأكثر شعبية في المشرق والأناضول، تروي الأساطير المختلفة أنه نزل أحيانا عن عموده حيث كان يعيش متنسكا، للاشتراك في القتال مع هذه الجهة أو تلك.
لكن هذه الصور القتالية الدينية تابعة للقرون الوسطى. مع انتشار الحداثة، تبنت التنظيمات المسيحية أشكالا أكثر علمانية، فحزب الكتائب — الذي تشكل منتصف القرن الماضي — لم يعلن هوية مسيحية، بل استعاض عنها بقومية، وان يمينية دينية، فكان شعاره ”الله الوطن العائلة“.
والتدين كان سبق أن طال ”حزب البعث العربي الاشتراكي“ بفرعه العراقي، الذي انقلب من علماني الى ديني متطرف، فتنظيم ”الدولة الاسلامية في العراق والشام“ (المعروف بداعش) تشكّل على أيدي بقايا أجهزة استخبارات صدّام ممن أبدلوا بذّاتهم الحزبية الزيتونية بسوداء، واستبدلوا شواربهم بلحى. لكن تهور هؤلاء العراقيين في استخدام العنف المطلق أودى بداعش كما سبق أن أودى بالبعث.
موجة الأصولية الدينية في الشرق الأوسط بدأت شيعيا في ايران مع الثورة الاسلامية في 1979، وسنيا في السعودية مع استيلاء جهمان العتيبي على الحرم المكي في العام نفسه. في السعودية، قضى ولي العهد محمد بن سلمان على التطرف الديني، واعاد البلاد الى الاسلام المعتدل. أما ملالي طهران، فلم يفعلوا ذلك، وهو ما أدى لانفجار شعبي في وجههم على شكل تظاهرات شعبية عارمة ضد الحجاب والتدين، وهي تظاهرات تحولت للمطالبة بالاطاحة بالنظام الاسلامي بأكمله.
أما سبب وصول الأصولية الدينية الى سنة العراق ومسيحيي لبنان فسببه الخواء الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعم العراق والمشرق على مدى القرن الماضي، اذ في غياب الحكمة، يسود العنف ويختبئ خلف الدين، الذي يفترض أن يكون مصدر السلام والسكينة.
قد يكون الأفضل لو يدرك ”جنود الرب“ في لبنان أن انتصارهم على ”حزب الله“ لا يكون بالعنف، بل بالحكمة والعلم، وتمكين المسيحيين من الصمود في العراق والمشرق فكريا، واقتصاديا، واجتماعيا، فمن انتصر في عقله وروحه لا ينهزم في جسده، أو هكذا علّم يسوع أتباعه يوم علّقوه على خشبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق