حسين عبدالحسين
يعاني العرب اليوم من انحطاط فكري مخيف. منتصف القرن التاسع عشر، بدأت نهضة فكرية عربية، لكنها تعثرت مع منتصف القرن الماضي، أو بعده بقليل، وصار الفكر العربي شحيحا، غالبه تعريب لأفكار غربية مستوردة. اليوم، ينضم مثقفون عرب من هضبة الجولان إلى الانحطاط العربي بتبنيهم نماذج يعتقدونها حداثة وتقدم، فيما هم يستنسخون فعليا أفكارا غربية سطحية أصلا، ويحاولون تعريبها وتطبيقها على عالم عربي ومجتمع، مشاكله مختلفة عن الغرب، وكذلك حلوله.
الرائج في الأوساط الأكاديمية الغربية، خصوصا الأميركية، هو مديح ”السكان الأصليين“ و”المستضعفين“، والإصرار على تقسيم الناس إلى هويات وقبائل، على شكل الطائفية العنصرية المقيتة المنتشرة في دول عربية كثيرة. ثم يتصورون كل واحدة من هذه القبائل على أنها جسد واحد يتألف من أناس ذوي آراء متطابقة، ويقومون بتصنيف كل قبيلة على إنها إما شريرة وظالمة أو خيّرة ومظلومة. مثلا، كل الإسرائيليين — باستثناء من يخرج عن قبيلته ويلعنها ويدينها — أنجاس مناكيد، وكل الفلسطينيين أطهار أبرار معصومين عن الخطأ، إلا العملاء منهم. والعميل هو الفلسطيني صاحب الرأي المختلف.
حمّى ”سياسة الهوية“ التي تجتاح أميركا وصلت هضبة الجولان. هذه الضحالة الفكرية، أو الولدنة على ما نقول في المشرق، يقدمها بالإنكليزية كتاب ”القصة غير المروية لمرتفعات الجولان“، لمؤلفين متعددين.
بادئ ذي بدء، يتبنى الكتاب معاداة الكولونيالية نفسها السائدة لدى اليسار الأميركي المتطرف، الذي يعادي مؤسسي الولايات المتحدة بوصفهم ”كولونياليين أوروبيين بيض“ أشرار، احتلوا أراض ليست لهم وطردوا سكانها الأصليين ودمروا حضارتهم واستعبدوا شعوب العالم. لذا، يقوم الكتاب باستخدام كلمة جولان العربية في متن النص الإنكليزي بنفس الطريقة التي يصر فيها مسلمو الغرب على كتابة الله بالإنكليزية بدلا من المرادف الانكليزي ”چاد“، ومثلهم عضو الكونغرس من أصل فلسطيني رشيدة طليب، التي تستخدم بالإنكليزي كلمات عربية مثل ”ستي“، للدلالة على جدتها، وتسمي السناتور برني ساندرز ”عمو بيرني“.
هذا الاستخدام لكلمات عربية في نصوص إنكليزية هو من باب التباهي بالاختلاف، والإصرار على التمايز في مواقع لا تحتاج للاختلاف أو للتمايز، وهي تصرفات شعبوية هدفها المناكفة ولا تمت للفكر بصلة. ربما كان أفضل لو تكبد مؤلفو الكتاب عناء البحث الايتومولوجي عن أصل تسمية جولان ومعناها، كما يفعل الأكاديميون الرصينون.
اسم جولان سابق للغة العربية ويرد في العهد القديم بمعنى مكان أو محلة، ولكن يمكن اشتقاق الكلمة من جالية وجلاء، ويمكن أن سكان هذه الهضبة هم من جلوا عن ديارهم لأسباب متعددة، منها الاضطهاد، ولجأوا اليها، فاكتسبت الهضبة اسم مشتق من جالية لاجئة، أو جولان. ثم إن كان اللفظ الإنكليزي لاسم جولان مشكلة، لماذا كتابة الكتاب بالإنكليزية، لغة الكولونياليين الأوروبيين اللعينين؟ لماذا لا يروي السكان الأصليون للجولان قصتهم بلغتهم الأصلية؟
الكتاب محاولة تماهي جولاني مع حركة المظلومية العالمية، من سليلي العبودية في أميركا إلى الفلسطينيين في الشرق الأوسط. يتخيل الجولانيون مؤلفو الكتاب أنهم ”سكان أصليين“ يعانون من ”استعمار استيطاني“ إسرائيلي لهم ولأرضهم، فيما هم يصمدون ويقاومون ويتحدون مع الفلسطينيين في النضال، ويتبادلون النصح حوله.
ويستعير الكتاب إضراب الجولانيين ضد الضم الاسرائيلي، مطلع الثمانينيات، كتاريخ ولادة المقاومة الجولانية، ويحاول إسقاط مفاهيم حديثة على الإضراب، فيشير إلى الحركة النسوية التي شاركت فيه، والوطنية التي ولدت معه. ثم ينشر الكتاب نص بيان الإضراب كوثيقة ولادة، ليتبين أن مفاهيم الإضراب تنتمي لزمنها، ولا تتناسب والنظريات الغربية التي يستوردها الكتاب، اذ يرد في البيان أن جنسية أهل الجولان عربية سورية، يتم تمريرها من ”الأب لابنه“، دون ذكر الأم أو البنات.
ويضيف البيان أن كل جولاني يحصل على الجنسية الإسرائيلية يطعن بالكرامة، والشرف، والانتماء الوطني، ويتم اعتباره خائنا للدين، وكأن دين الجولانيين واحد. أما عقاب من يقبل الجنسية الإسرائيلية، فيشبه عقاب من يتزوج خارج مذهب الموحدين الدروز، أي يتم إقصاؤه اجتماعيا، ومقاطعة مناسبات فرحه وحزنه، وتحريم الزواج من أفراد عائلته، ونبذه من النسيج الاجتماعي.
إذاً هذه هي الهوية الجولانية السورية: رأي واحد أحد تحت طائلة العقاب والنبذ والإقصاء الإجتماعي لكل من يخالف هذا الرأي الوطني الواحد. ثم يقوم مثقفو الجولان اليوم بتغليف هذا الفكر القومي القبلي المتخلف في كتاب شكله حديث ولغته إنكليزية بمفردات بليغة ونخبوية، بدلا من اعتبار أن أساس الهوية الجولانية هي الحرية، والخيار الفردي، والنقاش، وقبول الاختلاف.
لكن لماذا يرفض دروز الجولان ما وافق عليه دروز الجليل، أي قبول الجنسية الإسرائيلية والخدمة في الجيش؟ الإجابة يقدمها الكتاب، عن غير قصد، عن كيف يرى الدروز أنفسهم كأبناء أرض وأصحاب هوية دينية واجتماعية ثابتة، لا تؤثر فيها اللغة ولا الحكام، لأن اللغات والإمبراطوريات تتغير مع مر العصور، أما الدروز، فيستمرون عبر الأجيال، يستبدلون قمصانهم دون استبدال أرواحهم.
ويرد في الكتاب أن الدروز لا يرون الإسرائيليين أبقى من الامبراطوريات التي سبقتهم كالرومان والعثمانيين، مع أن الدروز حملوا جنسيات الإمبراطوريتين. ما لم يشر إليه الكتاب هو أن العرب، كالرومان والعثمانيين، قد يحكمون الجولان اليوم ويرحلون مستقبلا، لذا، فإن ارتباط موحدي الجولان هو بأرضهم المباشرة (أي قريتهم) ودينهم وتقاليدهم، وليحكم الجولان من يحكمه، مع ضرورة مسايرة الأباطرة المتنافسين احتياطا من انتقامهم، إن آل الأسد في دمشق. أو حكومة إسرائيل في القدس.
أما في الجليل، فرأى الدروز أن إسرائيل باقية، لذا راهنوا عليها، وانخرطوا فيها، وكذلك دروز سوريا (من غير الجولان) ولبنان، حملوا جنسيتي بلديهما. الجولان مصيره غير واضح، وهو ما يدفع الدروز إلى ”المشي على السور“: يعلنون سوريتهم من دون أن ينخرطوا في أي صراع مسلح ضد الإسرائيليين، لا في الجولان ولا في باقي الجنوب السوري، ولا في لبنان، ولا هم انخرطوا في الحرب السورية، لا إلى جانب الأسد ولا في صف معارضيه، بل حاولوا الحفاظ على مناطقهم خالية من نفوذ الطرفين.
هنا أكرر ما سبق أن رويته عن معلمنا المؤرخ الراحل كمال الصليبي، الذي كان يختصر سياسة الدروز برواية عن موقفهم في معركة عين جالوت في القرن الثالث عشر بين المماليك والمغول. لم يوفق الدروز في استشراف من سيفوز فانقسموا فريقين وقاتلوا على الجهتين والفائز توسط للخاسر أمام الحاكم الجديد.
ليت الأكاديميين الجولانيين وظّفوا علمهم الذي اكتسبوه للقيام بدراسة فعلية حول الجولان، ولماذا بقي الدروز يوم رحل غيرهم، وهل يتمسك الجيل الجولاني الجديد بقيم الأجيال الماضية، أم ينخرط في العالم بدءا من الانخراط باسرائيل ونيل جنسيتها. أما الكولونيالية الاستيطانية الاستعمارية، والاستشراق، وباقي الأسطوانة، فزجل سياسي عالمي لا يغني ولا يسمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق