حسين عبدالحسين
في الزمان الغابر كان للقبائل العربية شعراء هم الأكثر نباهة وطلاقة في بني قومهم، وبمثابة مثقفي اليوم. لكل قبيلة شاعر واحد ورأي واحد. لم يكن هدف الشعراء توخّي الدقة أو تدوين الأحداث، بل كانت مهمتهم الدعاية إذ ذاك، ينظمون قصائد الهجاء، أو المدح، أو الفخر، أو الرثاء. أما العامة، فيتناشدون الشعر إلى أن يحفظوه ويبزّوا به أبناء القبائل الأخرى.
هذه القَبَلية الفكرية تواصلت بعد انتشار الإسلام؛ فالدين الإسلامي مثلاً يصف مَن يدخلون فيه أفواجاً، أي جماعات لا أفراد، مع أن الإسلام نفسه لا يعارض انفضاض الفرد فكرياً عن جماعته، كما في انتفاض إبراهيم على عقيدة أبيه، وفي ثورة محمد على دين عشيرته. على أنّه في الحالتين الثوريّتين، لم يسلم إبراهيم أو محمد من دون مبادلة العنف بالعنف، فانتصر إبراهيم على النار، وأعمل فأسه في الأصنام، وانتصر محمد على قريش، فغزا مكة وحطّم أصنامها.
ولم تكن المسيحية أفضل حالاً. كانت الكنائس عبارة عن مجموعات سكانية كاملة متكاملة، يخرج رجل دين على التعاليم السّائدة، فتخرج معه عشيرته وقبيلته وسائر شعبه. هكذا صارت الآريوسية على مذهب آريوس، وانشق يوحنا مارون عن الكنيسة البيزنطية في أنطاكية، فصارت المارونية مذهباً مستقلاً ومتحداً مع روما مع أنه يستند إلى كرسي أنطاكية، أحد الكراسي الكنسية الخمسة المتساوية مع روما والقدس والقسطنطينية والإسكندرية. كان المنشقّون يكتبون نوعين من النصوص، واحداً فيه تعاليم الطائفة ليحفظها الأتباع، وآخر فيه دحض لمعتقدات #الطوائف المنافسة، يحفظه الأتباع للتعويل عليه في محاججة أبناء الطوائف الأخرى.
هذه الثقافة الفكرية السحيقة ما تزال سائدة بين عرب اليوم، من السنة والشيعة والمسيحيين والأقباط والموحدين الدروز. هذه الثقافة تقضي بتبنّي معتقدات الطائفة كما هي من دون أيّ تعديل أو تبديل. مثلاً: يستحيل أن تعثر على مسلم شيعيّ يعتقد أن علياً كان الأحقّ بخلافة الرسول، ولكن لا بأس بخلافة معاوية، بعدما تنازل الحسن بن علي عنها. التاريخ هكذا، قطعة واحدة، يقبله الأتباع بلا نقاش، ومَن يخالف أيّ فكرة يخرج عن الإجماع، وتالياً يتمّ إخراجه من الجماعة، ويكتسب صفات خارج أو مرتد أو منشقّ. كذلك الأمر عند الموارنة، الرأي الرسمي هو أن الطائفة منذ قيامها متّحدة مع روما، ومن يقلْ إنها انشقّت عن الملكيين فليس مارونياً. وهكذا أيضاً قصة فلسطين، وأيّ وجهة نظر مخالفة هي خيانة موصوفة.
والرواية الرسمية حول أيّ موضوع ليست ثابتة، حتى التاريخ يتغيّر بحسب موقف ومصلحة الجماعة وزعيمها. مثلاً: قد لا يعرف جيلُ اليوم أنّ مؤسس التيار العوني الرئيس السابق ميشال عون كان يردّد في سِنيّ منفاه أن "حزب الله" تنظيم إرهابيّ، فيما كان الحزب المذكور يصف عون وتياره بعملاء أميركا وإسرائيل. المشكلة ليست في تقلّب السياسيين، بل في انقلاب أتباعهم بشكل فوريّ واستبدالهم خطابهم بنقيضه من دون نقاش ولا تساؤل.
وانقلاب الأتباع قد يكون مفهوماً بسبب ضحالة ثقافتهم، لكن الطامة الكبرى هي في تقلّبات المثقفين، الذين يفترض أنّهم ضمير الناس وعقلهم. و#المثقفون، كما شعراء جاهلية العرب، غالباً ما يعيدون كتابة التاريخ. في العراق مثلاً، يندر أن تعثر على مثقف شيعي يروي أن الولايات المتحدة هي التي أطاحت بصدام حسين ونظامه، وأن أميركا نفسها هي التي قادت تحالفاً وشنّت آلاف الغارات الجوية لدحر تنظيم "داعش" الإرهابي. المثقفون العراقيون الشيعة يتفادون ذكر أميركا، ويكتفون بالإشارة إلى "انهيار" النظام السابق، وكأنّه انهار من تلقاء نفسه. عن "داعش"، يردّد هؤلاء المثقفون أن ميليشيات "الحشد الشعبي" هي التي انتصرت على التنظيم الإرهابي، بل يمضون في التلاعب بالحقيقة بترداد ما يزعمون أنه تصريح لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تقول فيه إن واشنطن هي التي صنعت داعش. وعند الطلب إلى أيٍّ من هؤلاء العراقيين تقديم دلائل على تصريح كلينتون، يكون الرّد بأنه تصريح معروف، أو بإرسال رابط لأحد مواقع الدعاية والأخبار الزائفة.
على هذا الشكل تتمّ إعادة كتابة تاريخ العراق الحديث، وهذه طريقة لا تختلف كثيراً عن كتابة معظم تاريخ العرب والمسلمين، إذ بالنظر إلى النصوص الإسلامية، يُمكن ملاحظة تناقضات جليّة؛ فالنصوص الأقدم تقدّم روايات مختلفة عن النصوص اللاحقة، ويُمكن العثور على رواية ونقيضها في كل موضوع تقريباً. أمّا ذروة التزوير ففي نقش قبة الصخرة في القدس، وهو نقش يشير إلى أن بانيه هو الخليفة العباسي المأمون، وهو ما لا يتوافق والتاريخ المنقوش العائد إلى زمن الخليفة الأموي عبدالملك، وهي الرواية الأصليّة والأصحّ قبل التزوير العباسيّ.
مفهوم أن تتبنّى وسائل الإعلام الرسمية والتقليدية، ومعها شعراء البلاط والنخبة، روايات القيّمين عليها، لكن من غير المفهوم كيف يتبنّى الأتباع الروايات البالية، خصوصاً في زمن الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي.
الإعلام الحديث يفترض أنّه أتاح للأتباع وعامة الناس فرص البحث، والاطلاع، وتشكيل الرأي المستقلّ، بعيداً عن البلاط وشعرائه والنخبة المرتزقة لديه. المفاجأة هي في أن الأتباع والعامة لم يحيدوا عمّا اعتادوا عليه، بل واظبوا على التزام موقف الزعيم ودعايته.
في العراق مثلاً، كانت الشكوى في زمن صدام حسين أن الإعلام الرسمي كان تكراراً لشعارات بلا قيمة، من دون أخبار ولا آراء حقيقية. اشتكى العراقيون من منع الإعلام الأجنبي والمحطات الفضائية، وحصر خياراتهم بمشاهدة التلفزيون الرسمي وتلفزيون الشباب التابع لـ"الأستاذ عدي صدام حسين". رحل صدام وعدي، ورحل معهما الحظر وفرض الرواية الرسمية. المفاجأة هي في أنه في غياب الرقابة الرسمية، فرض العراقيون الرقابة على أنفسهم: الشيعة لا يشاهدون إلا قنوات الشيعة، وكذلك يفعل السنة والأكراد؛ كلٌّ يشاهد قناة طائفته. الآراء العراقية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث #الحرية مطلقة لنقاش الأفكار على أنواعها، تشبه آراء صحيفتي الجمهورية والثورة في زمن صدام: في مجموعات الشيعة، تبجيل للمراجع في النجف وقم وحبّ لإيران، وفي المجموعات السنية كراهية لإيران والشيعة وأميركا، وكذلك الأمر في الكردية، آراء العامة تتطابق وآراء قاداتها.
الحرية التي منحتها أميركا للعراقيين باقتلاعها صدام لم تغيّر في الثقافة العامة العراقية، ولا العربية، حيث لا تمييز بين الهوية والرأي؛ فالرأي يتبع الهوية، والهوية تنبثق من الجماعة، فيُصبح رأي الفرد مطابقاً لرأي الجماعة، ويُصبح الخروج عن رأي الجماعة خروجاً على الجماعة نفسها وخيانة.
ولأن أغلبيّة العراقيين والسوريين والفلسطينيين واللبنانيين لا تفقه معنى الحرية والرأي المستقلّ عن الهوية والجماعة، بل تعتقد خطأ أن الاحترام يقيّد حرية الرأي، فلن تنتشر الحرية بين أفراد هذه الشعوب. وفي غياب الحرية، يستحيل قيام الديموقراطية، وتصبح عملية التصويت في الانتخابات الدورية وسيلة لقياس حجم كلّ جماعة بهدف تحديد حصصها في الدولة، بدلاً من أن تكون العملية الانتخابية مقياساً لأيّ سياسات تلقى دعم الأكثرية حتى يتم تبنيها وتنفيذها.
اللبناني الأميركي الراحل فؤاد عجمي كان أول الذين أدركوا مشكلة العرب مع الحرية، فتمرّد على الآراء السائدة، وتمنّى لو تمرّد المثقفون العرب من أمثاله، لكنهم لم يفعلوا، فكان عتبه عليهم كبيراً. عجمي مات حراً متنوّراً، ولكن غريباً عن جماعته، التي خوّنته، فيما أمعنت جماعته في الغرق في قمعها الحرية، وفي عيشها في الشقاء، الذي لا تبدو قادرة على الخروج منه، خصوصاً أن أغلبيّة المثقفين ترى في الشعبويّة وسيلة أسهل للجاه والحظوة في أعين الحكّام وأتباعهم من تحدّي السائد لتغييره وتحسينه.
*باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق