الثلاثاء، 21 أغسطس 2018

السلطان مفلس

حسين عبدالحسين

في كراسات التاريخ التي عممها مصطفى كمال أتاتورك على شعبه، أن الحلفاء فشلوا في احتلال تركيا بسبب انتصاره الأسطوري والمحوري في معركة غاليبولي. صحيح أن انتصار أتاتورك جنب السلطنة انهيارا كاملا في وقت كانت الحكومة العثمانية تستعد لإخلاء العاصمة اسطنبول، إلا أن الحلفاء لم يبذلوا جهدا مماثلا للذي بذلوه في احتلال مناطق عثمانية أخرى اعتبروها استراتيجية، مثل العراق، الذي غرقت القوات البريطانية في مستنقعاته الجنوبية، لكنها لم تتراجع، بل كررت حملاتها العسكرية حتى فرضت سيطرتها عليه بالكامل.

أما سبب تلكؤ الحلفاء في احتلال تركيا، فيعود لقلة أهميتها الاستراتيجية، إذ بعد شق قناة السويس وقيام الكويت بحماية بريطانية، لم تعد تركيا على طريق الهند. ومع استيلاء الحلفاء على الولايات العثمانية العربية، استولوا على حقول النفط العراقية وعلى المساحات المطلوبة، في سورية ولبنان وفلسطين، لوصل هذه الحقول بموانئ المتوسط.

بقيت تركيا الجريحة خارج الحرب العالمية الثانية، لكنها انضمت للتحالف الذي قادته الولايات المتحدة في الحرب الباردة، ربما ليس حبا بأميركا والديموقراطية، بل خوفا من أن يبتلعها الاتحاد السوفياتي، الذي جاورها بضمه جورجيا وأرمينيا في الشرق، وهيمنته على بلغاريا في الغرب. هكذا، صارت تركيا في عداد "تحالف الأطلسي" للديموقراطيات، مع أن أحوالها بقيت على حالها: ديكتاتورية عسكرية محاطة بفاسدين، بلا حرية ولا ديموقراطية ولا اقتصاد.

وفيما شهد مطلع القرن العشرين تحول الإمبراطورية العثمانية إلى ديكتاتورية تركية هامشية عالميا، شهدت نهاية القرن صعود الجيل الأول من الإسلاميين الأتراك، الذين قدموا أداء في الحكم أفضل اقتصاديا من العسكر، وزاحموهم على السلطة. فأطلق الجيش ماكينة القمع لكنه خسر المعركة، فسيطر الإسلاميون بالكامل، خصوصا بعد فشل انقلاب 2016.

اقرأ للكاتب أيضا: قصة الحجر الأسود

لم تكن نجاحات الإسلاميين الاقتصادية ثابتة، فتعرضت تركيا لاهتزازات كبيرة مع بداية الألفية، وخرجت منها بدعم المنظمات الاقتصادية الدولية، التي فرضت إصلاحات. وراحت تركيا تحقق نموا باهرا مع حلول النصف الثاني من العقد الماضي.

لا تزال ماهية الصعود الاقتصادي التركي غير مفهومة. هل دفعت الصناعات الخفيفة نمو تركيا؟ أم هل مولت تركيا نهضتها الاقتصادية بالدين الحكومي؟

تجاوز دين تركيا 230 مليار دولار بالتزامن مع تضخم خارج عن السيطرة وربط الحكومة شرعيتها بنمو صار يبدو مصطنعا وممولا بالاستدانة، يبدو أنها كلها عوامل دفعت البلاد إلى حافة الانهيار. وهو الانهيار الذي يبدو أن بوادره بدأت تلوح مع تهاوي الليرة التركية وخسارتها أكثر من 40 في المئة من قيمتها منذ مطلع هذا العام. وما زاد الطين بلة تفشي الريعية والمحسوبية والمحاباة والفساد، وإنفاق الحكومة أموالها على قطاعات مفيدة سياسيا، وغير منتجة اقتصاديا.

هكذا، يبدو أن الفقاعة التركية قاربت الانفجار، وبات أن ما خاله العالم انتقال تركيا من مصاف الدول الراكدة اقتصاديا إلى واحدة من أكبر 20 اقتصادا في العالم، كان أقرب لمجرد وهم ممول بالدين ومعززا بالدعاية.

مطلع القرن الماضي، عانت السلطنة العثمانية من فساد مالي واسع واضطرابات سياسية داخلية، فثبتت على نفسها لقب "الرجل المريض". لكن بدل أن يبحث السلطان المفلس عن حلول جذرية متمثلة بإصلاحات سياسية واقتصادية، علق السلطان عبد الحميد الدستور، ونسف الحريات، واستدان لبناء مرافق عامة وتمويل نهضة اقتصادية. لكن الأساس الاقتصادي العثماني بقي ضعيفا، على الرغم من نموه المدفوع سياسيا. ويقول المؤرخ يوجين روغان إن السلطنة العثمانية لم تكن تخيفها جيوش الأوروبيين، بل مصارفهم، التي كانت أدانت اسطنبول الكثير.

مع اقتراب موعد الانفجار الاقتصادي، وبدلا من العودة إلى الإصلاح، راحت السلطنة العثمانية تشعل الشعور القومي والإسلامي، وخالت أنه يمكنها الخروج من أزمتها بانقلابها على شراكة تجارية مع بريطانيا كان عمرها أكثر من ثلاثة قرون، ودخلت اسطنبول في تحالف مع برلين ضد التحالف الغربي.

وبدلا من أن تخفي الحرب الكونية الأولى عورات السلطان، كشفتها، ومضى مقاتلو الجيش التركي حفاة جائعين إلى معاركهم، حسب المؤرخة ليلي فواز. وعلقت اسطنبول المشانق للمعارضين السياسيين من بيروت إلى يريفان. لكن استعراض القوة عالميا عجل من انهيار السلطنة داخليا، بدلا من أن يؤجله، وبانت الأمور على حقيقتها: السلطان مفلس، ولا بديل لديه غير الإصلاح الحقيقي، الاقتصادي والسياسي. وهو إصلاح لم يأت، فانهارت السلطنة.

اقرأ للكاتب أيضا: قصتي مع اسمي الشيعي

اليوم، بعد قرن على انهيار السلطنة على المسرح العالمي، تعود تركيا إلى محاولة تشتيت الأنظار عن داخلها الضعيف بتظاهرها وكأنها قوية وماكرة دوليا. تغازل روسيا لاعتقادها أنها تثير غيرة أميركا. تشعل شعور معاداة الإمبريالية والغرب وأميركا. تصرخ. تهدد. تثير الشعور الإسلامي بقولها إن "الله معنا".

لكن الحقيقة تبقى أنه في تركيا اليوم، كما في تركيا قبل مئة عام، لا مفر من الإصلاحات الحقيقية الجذرية: إطلاق الحريات السياسية، دعم استقلال القضاء ونزاهته، التمسك بالديموقراطية بما في ذلك تداول السلطة، ومحاربة الفساد والمحاباة. كل ما عدا ذلك لن يغير في مجرى الأحداث التركية، ولن يسمح للأتراك بتفادي الانهيار، فالمشكلة المزمنة لا تزال نفسها على مدى قرن: السلطان مفلس.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008