حسين عبدالحسين
في سني الصبا، استهوتني أفكار الثورة على التقاليد والتقدم والتغيير نحو الأفضل. لم يعد يعجبني الانتماء لقبيلة ترى نفسها مختارة وفوق الناس، ومكتوب لها الجنة. استعصى علي أن أفهم كيف يمكن إغلاق أبواب الجنة في وجه أناس كان علمهم أكثر من علمي، وكانت مبادئهم الأخلاقية والإنسانية تسمو على المبادئ التي ورثتها.
اليمين العربي، الحاكم غالبا، تقليدي قبائلي، يتعايش كمجموعات تتناحر وتتصالح، لا كأفراد متساوين في الإنسانية وفي الحقوق والواجبات. اليسار صدره أرحب، لا يبالي بالأصل والفصل، بل يحكم على الأفكار، غالبا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويرى الدنيا صراعا طبقيا ينحاز فيه إلى الأقل دخلا.
اليسار يعشق التغيير، الذي يقارب التخريب أحيانا، حتى لو جاء التغيير من أهل اليمين، مثل الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي في 1979 واستولى عليها الإسلاميون، ولاقت ترحيبا واسعا بين الشيوعيين وأهل اليسار، الذين ما زالوا حتى اليوم يستمعون لأشعار المصري الراحل أحمد فؤاد نجم، يغنيها صديق عمره الشيخ إمام عيسى، وفيها مديح لثورة ايران من قبيل "صحيح الشعوب بنت (..) ولئيمة وتقدر تطيح العروش في ثواني"، وفيها تهكم على قوات أمن الأنظمة التي تقمع التظاهرات، كما في أغنية "شيد قصورك ع المزارع" التي تتضمن: "وافلت كلابك في الشوارع، واقفل زنازينك علينا".
في الثقافة اليسارية حزن على الوضع القائم، وهو حزن يفترض أن يتحول غضبا يدفع أصحابه الى الثورة والتغيير. على أن مشكلة اليسار تكمن في عدم واقعيته. صحيح أن مشاعر التساوي بين الرفاق تسمو على الانحناء لرأس العشيرة وتقبيل أيدي الحاكم، وصحيح أن الأشعار والمشاعر والأناشيد حماسية وجميلة، لكن لا خطط واضحة لدى اليسار لما يلي يوم نجاح الثورة، أي ثورة، فالرؤى الاقتصادية اليسارية انهارت الواحدة تلو الأخرى، من الشيوعيتين السوفياتية الروسية والصينية الماوية، إلى الاشتراكيات الإسكندنافية والأميركية اللاتينية.
على أن أشهر مفكري اليسار، كارل ماركس، لم يكن مخطئا في كل ما كتبه، فهو قدم صورة صحيحة عن المجتمعات الصناعية التي تضمحل فيها علاقات العشيرة والقبيلة، وينشأ بدلا منها تآخي طبقي مجتمعي، في الأحياء السكنية كما في أماكن العمل.
ولأنني كنت يساريا ولا تستهويني القبلية، لم أغلق الباب فكريا، فرحت أقرأ الأدب المؤسس للجمهورية الأميركية، بما في ذلك السيرة الذاتية للرئيس الأسطوري أبراهام لينكن، والمعروف بإنهاء العبودية والانتصار في الحرب الأهلية. ما لا يعرفه كثيرون عن لينكن أنه أول من شرّع ضريبة الدخل على الأميركيين بهدف تحرير الحكومة من سطوة كبار المتمولين، وحتى تصبح الحكومة الفيدرالية، حسب تعبيره، "حكومة الشعب، من الشعب، وللشعب".
هذه فكرة يسارية بامتياز، تسمح للمواطنين الأقل دخلا باستخدام حقهم في التصويت لاختيار حكومة تدافع عن مصالحهم ضد إمكانية استغلال رأس المال لهم، وتقوم بإعادة توزيع الدخل، فتنحاز بذلك الى الأقل دخلا.
لكن اليسار اللبناني كان "قبليا عالم ثالثيا"، لم ينظر إلى الولايات المتحدة كتجربة في الحكم والحكومة، بل على أنها امتداد للرجل الأوروبي الأبيض الذي رزحت شعوب تحت نير استعماره في القرون الخمسة الأخيرة. وتم حصر الاستعمار بالرجل الأبيض، ثم شيطنة الاثنين، رغم أن الاستعمار قائم منذ فجر الحضارة، وهو في غالبه عملية إيجابية تؤدي إلى التلاقح الفكري بين الشعوب، وإلى تعميم الأفضل علميا وثقافيا واجتماعيا، مثل يوم كان للعرب إمبراطورية عالمية حملت العلوم إلى الأندلس، ومنها إلى باقي أوروبا، وهي العلوم التي تحولت إلى أسس عصر التنوير.
في اليسار اللبناني، كنا لا نستسيغ الأحزاب القومية، ونتهم بعضها، كحزبي البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا، بالتآمر مع الغرب لقمع الشعوب وإبقائها متخلفة. ثم جاء الغرب بقوته العظمى، أي الولايات المتحدة، وأطاح بصدام حسين العراقي، وقدم للعراقيين فرصة ذهبية لبناء دولة ديمقراطية حديثة. لكن فاقد الشيء لا يعطيه، إذ لا ثقافة عراقية قادرة على بناء دولة ديمقراطية، بل عودة إلى التنافس القبلي الذي غاب لعقود بسبب انتصار صدام وقبيلته على كل المنافسين.
ما أثار غضبي داخل اليسار اللبناني كان استمرار الرفاق في غرقهم في طوباوية غير واقعية، فرفعوا شعار "لا للحرب (الأميركية للإطاحة بصدام) ولا للديكتاتوريات"، واعتقدوا أن الشعار المزدوج السلبية موقف أخلاقي متعال على الجهتين: الإمبريالية الغاشمة والديكتاتورية الدموية. الموقف كان أخلاقيا لا شك، لكنه كان مراهقا وغير واقعي. كان العالم أمام خيارين لا ثالث لهما: أما أميركا أو صدام.
أنا اخترت أميركا، وفيما كان الرفاق يرتشفون قهوتهم ويتحدثون في السياسة في بيروت، زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب ومنامة لمجلة أقمناها باسم "بغداد بوليتين"، وراهنت على الديمقراطية التي لم تأت، بل أن الفوضى العراقية قتلت أحد المراسلين، فأقفلنا.
لم يمض وقت طويل حتى ثار اللبنانيون على حكم البعث الآخر لهم، أي السوري، وطردوه. راهنت على الديمقراطية مجددا وانخرطت في "اليسار الديمقراطي"، فتكفل بالقضاء على هذا الحزب اغتيالات "حزب الله" لكبار قادته، ثم الشخصانية المقيتة التي غرق فيها الرفاق الذين انقسموا قبائل: قبيلة حاكمة تمدد للزعيم على عكس النظام الداخلي، ومجموعة تتصدى لها. ثم انهار يسار لبنان، كما انهار مشروع الديمقراطية فيه، حتى وصلت البلاد بأكملها إلى انهيار شامل، وتلاشت.
مع اندلاع الربيع العربي، كنت أدرك أن للشعوب العربية القدرة على الإطاحة ببعض حكامها، لكن لا قدرة لديها على استبدال الأنظمة بما هو أحسن منها. مع ذلك، أجبرني الموقف الأخلاقي على مناصرة الثوار في مصر وسوريا (لم أكتب عن ليبيا واليمن لقلة معرفتي بالدولتين).
اليوم، لا يزال اليسار اللبناني يدور في حلقة مفرغة، يسعى للتغيير دون تقديم مشروع واضح لإطلاق عجلة النمو الاقتصادي، بل يغرق في طوباوية "كلن يعني كلن"، مصحوبة بالثأر القبلي من إسرائيل في فلسطين، ومعارضة الجميع، ثم الوقوف وحيدا على تلة الأخلاق.
في الولايات المتحدة يسار أيضا. هنا، النظام السياسي من الأكثر استجابة في العالم لأي محاولات تغيير عبر صناديق الاقتراع. مثل اليسار العالمي والعربي، يعشق اليسار الأميركي التغيير، بما في ذلك التخريب. وكما اليسار العالمي واللبناني، ليس لدى اليسار الأميركي أفكارا مقبولة حول كيفية تحسين السياسات القائمة. السناتور بيرني ساندرز، اليساري الأكثر شهرة، يتميز عن أتباعه بفهم واضح أن الصراع طبقي لا هوياتي، ولذا يعارضهم بمعارضته التعويضات لسليلي العبيد، لاعتقاده أن على الحكومة مساعدة الناس ماليا حسب طبقاتها، لا حسب لون جلدتها.
لكن اليسار الهوياتي جرف بيرني، وأجبره على التراجع. هكذا، خرجت عضو الكونغرس الفلسطينية الأميركية رشيدة طليب ترسم تماها بين المستضعفين في فلسطين وفي مدينة ديترويت "السوداء" التي نشأت فيها. تقول طليب أن المستفيد واحد في فلسطين وفي ديترويت، وهو يستفيد ماليا على ظهر الفلسطينيين والسود.
النظر إلى الصراع كطبقي عابر للحدود هو نظرة يسارية ماركسية كلاسيكية، لكن طليب عدلتها وأدخلت فيها العنصر القبلي، فصار المستغلون بيضا أوروبيين في فلسطين وأميركا، والمستضعفون من غير البيض في فلسطين وأميركا كذلك. المشكلة هنا أن العرقية والإثنية أمر ثابت، فيما الطبقات الاقتصادية للناس أمر متحرك، وهو ما يخلق تناقضا رهيبا لا يراه اليسار الأميركي، الذي لا يتمتع بتفكير عميق أو معرفة واسعة، بل يكتفي بشعارات شعبوية لمواصلة بث الحماسة بين المناصرين والمؤيدين.
التخبط الفكري عند اليسار الأميركي قلب المفاهيم. صارت إلهان عمر، عضو الكونغرس المسلمة المحجبة، من قادة اليسار، العلماني بطبعه. اعتناق الدين مسموح عند اليساريين، على أن يكون الدين الذي لا يفرض تعليماته في السياسة، مثل المسيحية، حيث "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام، فهو كما يسميه غالبية معتنقيه "دين ودولة"، وهو ما يخلق تناقض رهيب، فإلهان عمر تؤيد مثلية الجنس، التي تحرمها الأديان وتحظرها، وإلهان عمر تمسك بيد بيرني ساندرز ويرفعانها أمام الجماهير، ولمس غير المحرم محظور عند المسلمين.
كذلك، تعارض إلهان عمر العبودية، فيما تشرعها النصوص الإسلامية بشكل واضح. فإذا كانت إلهان عمر تعمل على عكس كل هذه التعليمات الإسلامية، ما الذي تبقى من إسلامها؟ وما جدوى تمسكها بحجاب صار بمثابة إعلان هوية قبلية أكثر منه عبادة ذاتية؟
على أن أسوأ ما في اليسار الأميركي هو إنسانيته الاستنسابية، اذ يستميت اليساريون الأميركيون على السماح للمهاجرين غير الشرعيين بدخول البلاد والاقامة والعمل فيها، بلا شروط، ويصرّون على تحميل الحكومة تكاليف باهظة لتمويل مشاريع الرعاية الاجتماعية التي تفيد منها الطبقات المتدنية.
لكن عند الحديث عن السياسة الخارجية، تتبخر إنسانية اليسار الأميركي، ويتبنى موقفا أنه لا يمكن لأميركا أن تكون شرطي العالم، أو أن تتدخل لوقف مجازر بشار الأسد بحق السوريين أو علي خامنئي بحق الإيرانيين، بل أن تمسك اليسار الأميركي بالتغيير يتضمن تمنيه باضمحلال القوة الأميركية، وهو ما يعني أن يساند اليساريون ديكتاتوريات العالم الأكثر شراسة، غالبا لمناكفة حكومتهم ومؤيديها.
اليسار الأميركي يعتقد، غالبا بسبب انعدام خبرته، أن العالم واحة من الأمان والراحة والسلام لا يفسدها إلا الرجل الأبيض الأوروبي وخليفته أميركا، وهو ما يعني أن انسحاب أميركا من العالم يعني، بالضرورة، عالم آمن مسالم، برعاية أنظمة الصين وروسيا وإيران وغيرها.
هو يسار نواياه طيبة ومثاليته عمياء، ما يضرب على بصيرته في لبنان والعالم، ويحوّله إلى قبيلة ذات عصبية، وهو ما يعاكس مبدأ الانفتاح والأفكار المتجددة والتغيير.
أما ما تبقى من يساريتي، فعدائي لاستغلال المتمولين للعمّال، وتأييدي لحق وحرية تشكيل اتحادات عمالية تدعم صوت العمال في وجه صوت المال، الأقوى عادة والأعلى. وعلى نفس الطراز، تدفعني يساريتي إلى تأييد وقوف الحكومة في جانب ناخبيها ضد ممولي السياسيين وحملاتهم الانتخابية، واستخدام الضرائب التصاعدية لتمويل برامج الرعاية الاجتماعية والطبابة المجانية للمحتاجين، وكذلك العلم، بكل مراحله، للجميع، دون توزيع المال على الناس (حسبما تطالب طليب)، ومع مراعاة السعي لدفع النمو الاقتصادي قدما، إذ أن اليسار يعدّل من فظاظة اليمين واندفاعته الاقتصادية، ولكن لا يمكن لأي من الاثنين استبدال الآخر كليا، وهو ما يبدو أنه يفوت الحزبين الأميركيين، الديموقراطي اليساري والجمهوري اليميني، وهو ما صار يجعلني وسطيا، ديمقراطيا في شؤون الداخل، وجمهوريا في السياسة الخارجية.
ولأن الداخل، أي بلادي الأميركية، تعنيني أكثر من الخارج، فتراني أدلي بصوتي للديمقراطيين اليساريين، بالرغم من اختلافي الجذري مع سياستهم الخارجية المؤيدة للديكتاتوريات.
المواطنية عملية معقدة تملي على المواطنين المتابعة الدائمة للمواضيع التي تهمهم وتخدم مصالحهم، وأكثر ما يؤذي المواطنية هو الأفكار المعلّبة والمتحجرة والتمسك بالمواقف قبليا، بدلا من تبني الأفكار فكريا وعقليا. كل منا يسعى لتحكيم عقله، بعضنا لإرضاء ما يمليه عليه ضميره، وبعضنا الآخر لإرضاء الضمير الجماعي، الذي قد يصيب أحيانا وقد يخطئ في أحيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق