حسين عبدالحسين
بمشاركة أكبر شركات التكنولوجيا في العالم، وفي طليعتها أمازون وآبل وغوغل، أعلنت السعودية إنفاق مليار ومئتي مليون دولار لتمويل برنامج يهدف إلى تحويل مئة ألف سعودي إلى متخصصين في قطاع التكنولوجيا "هاي تك".
وفيما كانت الرياض تستثمر في بناء قوة عاملة قادرة على اقتطاع حصة من اقتصاد التكنولوجيا العالمي، زار وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتوقيع اتفاقية إقامة مجلس للتنسيق بين بلديهما، بعد أعوام من القطيعة، وهو توقيع تلا نهاية قطيعة مماثلة بين قطر والإمارات، بعد زيارة الرجل الثالث في القيادة الإماراتية، طحنون بن زايد، الدوحة، ولقائه أميرها تميم بن حمد، وزيارة مماثلة سبق لبن زايد أن قام بها إلى أنقرة، التقى فيها الرئيس رجب طيب إردوغان.
في منطقة الشرق الأوسط عدد من الدول التي تدرك محورية نمو اقتصادها، وتسخّر كل إمكاناتها في سبيل ذلك، وتتعالى عن عداوات الماضي، وتعمل على "تصفير المشاكل" مع أكبر عدد ممكن من الدول بهدف الانخراط معها في شراكات اقتصادية.
والتعاون الاقتصادي لا يعني بالضرورة التخلي عن الخطاب السياسي المعادي. تركيا، مثلا، لا تزال تعادي إسرائيل في العلن، ولكن في السر، يمضي حجم التجارة الثنائية بين البلدين في ازدياد مضطرد.
أنقرة تدرك أن سنوات من السياسة الخارجية الشعبوية هزّت الاقتصاد التركي، فتراجعت قيمة العملة الوطنية بواقع 11 في المئة على مدى العام الماضي. ومثلها، تعرف الإمارات أنه لا يمكن مواصلة الانخراط في حروب اليمن وليبيا وغيرها، وهو ما دفع أبوظبي إلى تقليص مشاركتها في الصراعات الاقليمية، واستبدال ذلك بتعاون تجاري واقتصادي، حتى مع أعداء الأمس.
و"تصفير المشاكل" في العلاقات الخارجية شمل بدوره السودان، الذي عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل مقابل إسقاط ديونه وعودته للاقتصاد العالمي، ومثله فعل المغرب، الذي رأى في التطبيع مع إسرائيل فرصة ذهبية للعمل على رفع نسب النمو الاقتصادي.
بكلام آخر، تتجه تركيا والإمارات ودول إقليمية أخرى نحو "تصفير المشاكل" في علاقاتها الخارجية، وذلك في سبيل مصالحها القومية العليا، خصوصا لناحية نمو اقتصادها. وسياسة "تصفير المشاكل" هذه ستؤدي، من دون شك، إلى توسيع دائرة السلام بين الدول العربية وإسرائيل، وذلك بدوافع اقتصادية، بعيدا عن عقود من الخطابات والمواقف الخشبية عن الصمود والتصدي والانتصار وباقي الأسطوانة.
على أنه في وقت تتوسع رقعة السلام في الإقليم، ومعها تنمو الاقتصادات وتتحسن مداخيل الناس وحياتهم ويعيشون بكرامة، تواصل كتلة ثانية في منطقة الشرق الأوسط تعكير السلام، بل تعمل على توسيع رقعة الحروب، مع ما يعني ذلك من انهيار اقتصاداتها وتوسع دائرة الفقر والبؤس.
و"محور المشاكل" هذا بقيادة "الجمهورية الإسلامية في إيران"، ومشاركة أربع دول عربية فاشلة تحكمها حكومات خاضعة لسطوة ميليشيات تقسم الولاء للنظام الإيراني، هذه الدول هي العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومعها قطاع غزة الفلسطيني.
تسود في "محور المشاكل" شعارات تتصدرها الدعوة بالموت لأميركا وإسرائيل، بل لليهود عموما، وتنتشر فيها عمليات اغتيال بحق المطالبين بالسلام والعيش الكريم. و"محور المشاكل" الذي تقوده إيران ما زال يتبنى سياسات بالية حول الاقتصاد، منها فرضيات "الاكتفاء الذاتي"، التي تخلت عنها أكبر الحكومات الشيوعية في العالم، وفي طليعتها الصين، التي راح اقتصادها ينمو ويصل للصدارة باستناده إلى التجارة والشراكات الاقتصادية مع كل دول العالم، وفي طليعتها العدو الإمبريالي المفترض، أي الولايات المتحدة.
ومثل في حالة تركيا وإسرائيل، تتمسك الصين بخطاب ودعاية معادية لأميركا لكن على أرض الواقع، تجعل التجارة بين الدولتين أكبر شريكين اقتصاديين على وجه الكوكب.
بين الحين والآخر، تختلط الأمور على حكام إيران، فيخالون أن عائداتهم النفطية تعني قوة وتفوقا اقتصاديا، لكن الواقع أن الاقتصاد الإيراني متهالك، وتتهالك معه اقتصادات الدول العربية التي ترتبط به.
هكذا، في وقت تقيم السعودية شراكة مع أكبر شركات ”هاي تك“ في العالم، وتنمو اقتصادات الدول التي تعيش في سلام مع بعضها ومع إسرائيل، مثل الإمارات وتركيا، تحتار إيران في كيفية تأمين المواد الأساسية المطلوبة للعيش في حده الأدنى لشعبها والشعوب التي تحكمها، مثل الدواء والماء والقمح وحتى البنزين للسيارات، إذ تكاد تنعدم قدرة إيران — التي تخال نفسها دولة صناعية متفوقة — على صيانة منشآتها النفطية، مما يمنعها تاليا من تكرير كميات كافية من النفط للاستهلاك المحلي ولاستهلاك الحلفاء.
وهكذا، فيما أقامت السعودية احتفالات للإعلان عن انطلاق برامج التنمية التكنولوجية، وقف زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله في بيروت يلّوح بأصبعه، ويهدد أميركا وإسرائيل من مغبة استهدافهم ناقلة النفط التي يفترض أن ايران أرسلتها للبنان للتخفيف من أزمته القاتلة، رغم أن لا أميركا ولا إسرائيل وعدت بالتعرض للناقلة أو استهدافها.
نصرالله، مثل نظام ايران، لا كلام لديه غير الحروب، ولا حياة لمن يعيشون تحت حكمه غير حياة الذل والفقر والبؤس التي يسميها نصرالله "كرامة وطنية" و"انتصارات" و"عدم خضوع".
لكن مما يشكي "الخضوع" المزعوم والسلام مع اسرائيل؟ وأين يعمل الفلسطينيون ويكسبون العيش الكريم؟ في تركيا والإمارات أم في إيران ولبنان؟ الإجابة هي أن بعض الفلسطينيين لا يدركون أن العيش الكريم يعني أن مصالحهم تسمو على عواطفهم، فيكسبون عيشهم في محور "تصفير المشاكل"، أي في تركيا والإمارات والسعودية، لكنهم يهللون لـ "محور المشاكل"، أي ايران و"حزب الله" ودول الموت، وهي المفارقة التي لا يبدو أن هؤلاء الفلسطينيين، ومعهم عرب كثيرين، يدركونها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق