حسين عبدالحسين
احتفل العالم الأسبوع الماضي بيوم اللغة العربية، وتفنن عرب كثيرون في استعراض ما اعتبروه جمال هذه اللغة، وأشاروا الى أقصر الكلمات مثل قِ (بالكسرة)، وهي صيغة الأمر لفعل الوقاية، وعِ كصيغة أمر لفعل الوعي، ورِ كفعل أمر من الماضي رأى. وأشار البعض إلى خطبتي الإمام علي بن أبي طالب، واحدة بدون حرف الألف وثانية من دون أحرف منقطة، فيما وزّع البعض الآخر لقطات للأكاديمي الفلسطيني الراحل اداور سعيد وهو يشيد بجمال اللغة العربية ويقول إنها لغة الأديان السماوية، كالقرآن، ولغة مخطوطات كثيرة مثل مجلّد الرحّالة ابن بطوطة.
الألاعيب الكلامية كأفعال الحرف الواحد والخطب بدون ألف أو تنقيط مسلية. أما ابن بطوطة، فهو مات في العام 1377 ميلادية، وجغرافيته وباقي علوم العرب من الزمان الغابر أكل عليها الزمن وشرب ولم تعد صالحة الا كمصادر أولية للمؤرخين.
ومنذ ذلك الزمان، لم تشارك العربية في الاختراعات الحديثة، ولا توجد دوريات عربية علمية رصينة يتم الاستشهاد بها في المحافل الأكاديمية الدولية. ثم أن اللغة العربية محنطة بالكاد تتطور. في الماضي كان للعرب مجمعان لغويان يعملان على تعريب الكلمات المستحدثة مثل مقاتلة للطائرات الحربية ومروحية للهليكوبتر وهاتف للتلفون. لكن المجمعين صارا كمعظم أمة العرب، شعوب رثة صدئة منهمكة في ثارات الماضي الذي يشغلها عن اللحاق بالعصر الحديث.
وأسوأ ما في اللغة العربية أنها ليست لغة الأم لأحد. اللهجات العربية المحكية هي اللغة الأم التي يتحدثها أصحابها بسلاسة وبحد أدنى من الأخطاء. أما الفصحى، فبالكاد تستخدمها نسبة ضئيلة من المتحدثين بالعربية بطلاقة وبدون أخطاء في الصرف والنحو. حتى من قلّت أخطاؤهم بالفصحى يندر أن يتمتعوا بالبلاغة المطلوبة للخطابة أو للكتابة بسلاسة.
والعربية الفصحى غالبا ما تتأثر باللهجات المحكية، فمن يقرأ صحيفة مغربية أو تونسية سيرى أن مفرداتها وأسلوبها يختلفان عن العربية المصرية أو المشرقية أو العراقية.
ولأن المدارس من المحيط الى الخليج تفرض تعليم العربية الفصحى، يمكن لغالبية العرب فهمها، ولكن هذا لا يجعلها لغة الأم لأي منهم. أما من ترعرع في بلاد غير عربية وورث لهجة عربية محكية عن أهله، فيكاد يستحيل عليه فهم الفصحى، كما يصعب عليه فهم اللهجات العربية الأخرى غير التي ورثها. ومن ترعرعوا في لبنان، مثلا، يجدون صعوبة كبيرة في فهم المغربية أو العراقية.
إن فرض الفصحى في المدارس هو من باب العقائدية السياسية لشعب يسمي نفسه عربيا ولا يجد غير الإسلام كقاسم مشترك، وحتى الإسلام هذا يختلف في أشكاله بين تركيا الصوفية ومصر الأزهرية وغيرهما من الدول الأعضاء في جامعة الدول الاسلامية.
اللغة هي وسيلة في خدمة الناس وتقدم معارفهم. أما عندما ينتفي دور اللغة كوسيلة، وتتحول الى هوية مقدسة مفروض التمسك بها لأنها "لغة أهل الجنة"، أو لأنها لغة مضبوطة وفائقة الدقة، فتصبح لغة بائدة قليلة الفائدة.
ومقولة أن العربية هي "لغة أهل الجنة" أسطورة، إذ أن علم اللسانيات قادر على تحديد عمر اللغة العربية القديمة، ويعتبر أنها تعود الى العام 1500 قبل الميلاد، وأنها انفصلت عن الآرامية. أما لغة القرآن، فحديثة نسبيا، وتعود الى القرن الثالث أو الرابع الميلادي، فيما العربية الفصحى الحالية بدأت مع زمن العباسيين في القرن التاسع الميلادي. هذا يعني أنه يستحيل أن تكون اللغة العربية "لغة آدم"، إلا إذ اعتبرنا أن آدم ظهر بعد 3900 عاما على ظهور أقدم حضارة معروفة، في مدينة عروق ما بين الرافدين.
كما أن التظاهر أن العربية متفوقة بدقتها هو أمر يجافي الحقيقية، فاللغة تفتقر إلى تعابير كثيرة مثل كلمة ليبرتي الإنكليزية، التي نقوم بترجمتها بكتابة "حرية فردية". كما لا تميز العربية بين كلمتي بوليسي وبوليتيكس الإنكليزيتين وتستخدم كلمة سياسة للاثنين. وهكذا، في العلوم السياسية كما في علوم بشرية متعددة، لم تشارك العربية في صناعة هذه العلوم أو تطويرها، فتراجعت.
يوم كان متحدثو اللغة العربية في ذروتهم الفكرية، قدموا للبشرية كلمات عربية ما تزال حيّة في معظم اللغات، مثل كلمة قمرة التي اخترعها العرب للتصوير، وهي عادت إلى العربية معرّبة على شكل كاميرا. ومثل ذلك كلمات متعددة نقلها العالم عن علوم العرب. اليوم، لم تعد العربية جزء من العلوم البشرية.
وإذا كانت العربية الفصحى ليست لغة العصر مثلما كانت يوما، ولا هي اللغة الأم لأي بشري، فما فائدة التمسك بها؟ وما قيمة الجمال الذي نتحدث عنه، والذي لا يداعب إلا مخيلة الضليعين في الصرف والنحو والبلاغة. أما عامة الناس، فبالكاد تفهم الفصحى، ناهيك عن الاعجاب بجمالها.
كل البشر يعشقون لغتهم التي فطرتهم عليها أمهاتهم ومجتمعاتهم، ويشعرون بالقدرة على التلاعب بألفاظها والتعبير عن أنفسهم باستخدامها، وفي حالة العرب، فان أفضل تعبير هو باللهجات المحكية، على غرار الشعر العامي للمصري أحمد فؤاد نجم وللبنانيين عمر الزعني وزغلول الدامور، وغيرهم من الشعراء الموصوفين بالشعبيين. أما الفصحى، فذوق مكتسب يعشقه عدد قليل من المتعلمين، ويتظاهرون وكأنه موسيقى تطرب كل العرب، وهذا غير صحيح.
اللغة وسيلة تواصل وتخزين معارف وتناقلها، واللغات الأكثر شيوعا هي الأكثر تداولا بسبب تصدر من يتحدثونها في المعارف والتجارة والاقتصاد وغيرها. أما من قلّت معارفهم، تقلّصت لغتهم، وتحجّرت، وفي حال العرب، تحوّلت الى لغة أرشيفية لماض مجيد ولى وعبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق