حسين عبدالحسين
في إكسبو دبي الدولي، قدمت الدول صورة عن نفسها: بعضها يسعى لمستقبل أفضل، وبعضها أسير ماضٍ لا ينقضي فيقضي على الحاضر وعلى المستقبل، وبعض ثالث لا ماض ولا مستقبل له، بل دعاية لحاكم مستبد وشعاراته وآرائه التافهة التي لا تولد إلا البؤس والشقاء.
في جناح الولايات المتحدة، تبدأ الجولة بشعار "من كثيرين واحد"، وإشارة إلى التعددية الأميركية، وعرض لمصحف الرئيس الراحل توماس جيفرسون، وإصرار على الديموقراطية والحرية الفردية التي سمحت للعبقرية الأميركية بأن تقدم للعالم أهم اختراعات القرنين - الأخير والحالي- من، غراهام بل، مخترع الهاتف إلى، ستيف جوبز، الذي أهدى البشرية عالم اللوحات الحاسوبية والهواتف الذكية. وفي نهاية الجناح الأميركي برنامج دراسة المريخ ومحاولة استيطانه، ثم يعلو صوت يذيع شعار استقلال البلاد، ولكنه معدلا هذه المرة من "الحياة والحرية والسعي للسعادة" الى "الحياة والحرية والسعي إلى المستقبل".
ومثل الولايات المتحدة، تقدم دولة الإمارات المضيفة نبذة عن الإنجازات الباهرة لدولة يافعة تفوقت على معظم دول الإقليم بإقامتها اقتصادا مبنيا على المعرفة في أقل من خمسين سنة هي عمر الاتحاد الفدرالي الإماراتي. ومن نافل القول أن الإمارات المضيفة لم تكن بحاجة إلى جناح لاستعراض تفوقها، فالزائر حتى يصل معرض أكسبو لا بد له من المرور بمطار وشوارع ومترو أنفاق دبي، وكلها باهرة بتنظيمها وتألقها في اقتصاد رأسمالي رهيب لا يستكين الناس فيه.
يجاور الإمارات جناح السعودية. هنا الفن المعماري بديع ويعتمد على مرايا في مدخل يقود الناس في جولة عالم افتراضي عن السعودية الجديدة الحديثة الساعية للانضمام إلى الاقتصادات المعرفية التي تعتمد السياحة والخدمات على أنواعها، التكنولوجية والتعليمية والطبية والهندسية والمصرفية. ويختلط العالم الافتراضي بتصاميم تعكس الفن العمراني عبر السعودية، من الحجاز وعسير غربا، إلى الإحساء شرقا، مرورا بنجد.
وحتى لا يظن القارئ أننا نقدم دعاية مجانية للإمارات والسعودية بالإضاءة على تطورها السريع وانتقالها إلى اقتصاد المعرفة الذي تتسابق الحكومات الواعية لتبنيه، لا بد من القول أن جناحا الدولتين الخليجيتين يفتقران إلى أي إشارة إلى طبيعة الدولة والحكم أو الى الديموقراطية والحريات العامة.
الحديث حول الديموقراطية في الخليج يحتاج إلى مساحة غيرة متوفرة في هذا المقال. لكن من نافل القول أنه بعد سلسلة التغييرات الجذرية التي طالت دول المنطقة، من حرب العراق التي أطاحت بحكم البعث إلى ثورات الربيع العربي التي انقلبت إلى خريف وحروب أهلية، صار من شبه المؤكد أن ثقافة البشر خارج كتلة الديموقراطيات الليبرالية الغربية غير قادرة على إنتاج ديموقراطيات، وهو ما يقلص خيارات الشعوب إلى دول غير ديموقراطية وناجحة، كالإمارات والسعودية، ودول غير ديموقراطية وفاشلة، بل غارقة في الفشل، مثل لبنان وإيران وسوريا والعراق واليمن والأراضي الفلسطينية.
ولأن الديموقراطية ليست في لائحة الخيارات في دنيا العرب وإيران، فلا فائدة من الإصرار على تقويض حكومات مستقرة ذات اقتصادات مزدهرة وأن غير ديموقراطية، مثل نظام شاه إيران، وانتظار ديموقراطية لا تأتي، فيملأ الفراغ إسلام سياسي ظلامي قاحل وفاشل.
وفي إكسبو دبي تعرض إسرائيل صورتها، ولا تتطرق إلى حكومتها الديموقراطية، بل تكتفي بالإشارة إلى التنوع الإثني والمذهبي لمواطنيها، ويعتمد جناحها على العالم الافتراضي ليقدم إنجازات الدولة العلمية، من تفوقها في تقنيات تحلية مياه البحر ومحاربة التصحّر إلى تصدرها الكوكب في قطاع إنتاج التطبيقات الإلكترونية على أنواعها. ويقدم جناح إسرائيل نفسه في أسلوب نادٍ ليلي لأن البلاد تتفاخر بحياة السهر الليلي التي تجتذب السكان والسيّاح على حد سواء.
وعلى غرار الولايات المتحدة، التي ترفع شعار "السعي الى المستقبل"، ترفع إسرائيل شعار "غدا أفضل".
أما جناح فلسطين، فلا مستقبل ولا غد، بل إصرار على الماضي ورسومات للقدس ولمسجد قبة الصخرة وبيّارات الليمون والبرتقال ومبنى تفوح منه رائحة الزعتر المشوي الجملية. فلسطين هذه تغرق في سياسات الهوية والإصرار على وطن ضائع ووهم أن الأرض تصنع المستقبل، فيما الأرض هي وسيلة لا يمكنها أبدا أن تكون غاية.
ومثل فلسطين جناحا لبنان وسوريا، الدولتان الفاشلتان اللتان موّلت جناحيهما حكومة الامارات، ربما شفقة منها أو حسنة. لبنان يستعرض بعض صناعات النبيذ. عدا عن ذلك، لا وجه ولا هوية، إذ كيف يمكن لدولة تجتاح شوارعها صور الأموات أن تنظر إلى المستقبل.
بدورها تعوّل سوريا على الفيديوات الدعائية المستوحاة في الغالب من شعارات رئيسها بشار الأسد. والأسد هذا، دمّر بمفرده سوريا على رؤوس من فيها، ثم راح يعدهم "سوا منعمرها"، وليته يعدهم بـ "سوا نحكمها". عل أن السوريين وباقي العالم يعلمون أن الرجل غير سوي، وأنه يتساوى في جنونه مع كبار طغاة العالم، من نيرون روما إلى صدام حسين العراقي.
ختاما الديكتاتوريات التي لا تقدم حريات ولا تستعيض عنها بازدهار ونجاحات، بل تضيف إلى مأساة طغيانها بشاعة فسادها، وتضخم حسابات قادتها المالية السرية، واغتيالها المعارضين. يتصدر هذا النموذج رئيس روسيا فلاديمير بوتين، الذي يحاول الاستعاضة عن ديكتاتوريته وحكمه الفاشل بتصوير نفسه ندا للغرب، ومحاولة تشتيت انتباه الروس عن بؤسهم بتزيينه لهم أنه يكفي الأمة الروسية فخرا أنها تصارع القوى العظمى، ما يجعلها عظيمة ويجعل الروس عظماء— عظماء وإنما فقراء.
هكذا، يقدم الجناح الروسي عرضا عن قوة العقل البشري، ويسعى لاستعراض قوة روسيا في العلوم، ويختتم بالقول أن وحده تعاون الدول يسمح باطلاق قوة هذا العقل. والتعاون الذي يقصده بوتين هنا هو بمثابة ندية تجبر الغرب الديموقراطي على السكوت عن فشل بوتين، في الحقوق والحريات كما في اقامة اقتصاد معرفي منفتح.
صور كثيرة تقدم دول المعمورة عن أنفسها في إكسبو دبي. أما المشاركون، فيحسدون من يسكن الخليج وإسرائيل وأميركا، ويمرّون مرور الكرام على دول لا ديموقراطية فيها ولا أزدهار، ولن يتذكرها التاريخ إلا في الهوامش والحواشي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق