حسين عبدالحسين
يخبرني صديقي اللبناني المقيم في دبي أنه يستضيف والديه المتقاعدين من بيروت، وأن إخوته وعائلاتهم توافدوا من أوروبا وأميركا إلى الامارات، وأن عائلته الكبيرة التقت على مدى أسبوع واحتفلت بأعياد نهاية السنة. ومثل اللبناني طارق كذلك قريبي السوري سليم، الذي قررت عائلته الاجتماع في دبي، ومثلهما أقرباء وأصدقاء لي عراقيين وفلسطينيين، كلهم توافدوا إلى الإمارات لقضاء عطلة عائلية بعدما تعذرت زيارة هؤلاء المغتربين دولهم الفاشلة القاحلة، التي تحولت إلى مكبات نفايات لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة.
وإلى اللقاءات العائلية، يتمتع زوار الإمارات بسياحة في مدن لا تختلف عن كبرى دول أميركا الشمالية وأوروبا، مدن تختلط فيها الشعوب من أقطار العالم: الاسكندنافيون والهنود إلى جانب الصينيين والأفارقة. شعوب ولغات وثقافات تسير جنبا الى جنب، وتجلس في المقاهي والمطاعم، وتتمتع بالخدمات السياحية المتفوقة التي تقدمها دبي وأبوظبي.
المشعوذون الثوريون وأصحاب "فلسطين القضية المركزية" يستخفون بالرفاهية التي تعيشها الإمارات وتقدمها للمقيمين فيها والوافدين إليها. مثلا، أشار يوما زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله الى مدن الإمارات على أنها "مدن الزجاج" للدلالة على أنها برّاقة وتلمع ولكنها لا تصمد أمام الحروب والشدائد.
ويوجّه مناصرو المشعوذين انتقادات أخرى للإمارات، إما بالتعييب عليها في أن لا فضل لقيادتها في إنجازاتها الاقتصادية الباهرة لأن الإمارات تعتاش من عائدات صادراتها النفطية الكبيرة، أو بالإشارة إلى أن توزيع الثروات في الإمارات لا يطال كل العاملين فيها وأن أوضاع العاملين في المهن البسيطة، خصوصا من الآسيويين، لا يتمتعون بمستوى رفاهية كباقي المواطنين والمقيمين.
لكن في نبرة المشعوذين الثوريين وأنصارهم الكثير من الحقد والغيرة تجاه الإمارات، وفي نبرتهم محاولة تبرير فشلهم وفشل قضاياهم ودولهم، وفيها محاولتهم البحث عن أي فجوات إماراتية يمكنهم الاشارة اليها، على هامشيتها، للانتقاص من النجاح الإماراتي الباهر.
على أن نجاح الإمارات لم يكن وليد الصدفة، ولا سببه ثروة البلاد النفطية، فالبلاد حريصة على حياديتها في الحروب الإقليمية الكبرى، مثل في زيارة مستشارها للأمن القومي الشيخ طحنون بن زياد ايران قبل أيام قليلة من استقبال أبوظبي رئيس حكومة إسرائيل نفتالي بينيت. الحفاظ على علاقة مع كل الأفرقاء، والتزام الحياد في حال اندلاع أي حرب بين اسرائيل وإيران، هي سياسة في قلب الاستقرار والبحبوحة الإماراتية، وهو نفس موقف الحياد الذي انتهجه لبنان بين 1958 و1969 مفيدا من تفاهم استثنائي بين الولايات المتحدة ورئيس مصر الراحل جمال عبدالناصر قضى بتحييد لبنان عن الصراع العربي الإسرائيلي.
هكذا، فيما كانت الدول العربية منخرطة في حربها الكارثية ضد إسرائيل في العام 1967، تحول لبنان إلى الوطن البديل للعرب الهاربين من حروب مشعوذي القضية الفلسطينية، فتوافد العرب وأموالهم على بيروت، فتحولت ملتقى الحضارات وقبلة أنظار العالم، تماما مثل الإمارات اليوم. لكن بعد هزيمته أمام إسرائيل، لجأ عبدالناصر الى حرب العصابات لحفظ ماء الوجه، ورعى عمليات المنظمات الفلسطينية من الأردن ولبنان. الأردن أثبت سيادته بطرده الميليشيات الفلسطينية، أما لبنان، فارتكب خطيئة مميتة بتنازله عن سيادة لم يستعدها حتى اليوم. هذا عن حياد الامارات الإقليمي الممتاز.
أما في أن ثروة الامارات النفطية هي صاحبة الإنجاز الاقتصادي، ففي الأمر إغفال أن الإمارات ليست الدولة النفطية الوحيدة في المنطقة، بل أن إيران والعراق تتمتعان بمخزونات نفطية وغازية أكبر بكثير من الثروة الإماراتية. مع ذلك، تقف الامارات كقبلة للمهاجرين والسيّاح فيما الناس تفرّ من جحيم الإسلام السياسي والقضية في إيران والعراق.
وسبب الفورة الاقتصادية المذهلة في الامارات هو فهمها لمتطلبات إقامة اقتصاد معرفي حديث. استخدمت الإمارات أموالها النفطية أولا لإقامة بنية تحتية لا تضاهى، وأرفقتها بتشريعات مغرية للمستثمرين، فتدفقت الاستثمارات العالمية، ولحقتها أبرز العقول من شتى أصقاع الأرض، ولخدمة هذه العقول الوافدة نشأ اقتصاد سياحي خدماتي استقطب بدوره السيّاح حتى صارت دبي من أكبر خمس مدن في العالم في عدد السيّاح الذين يزورونها سنويا، في مصاف نيويورك وباريس وغيرها من كبرى مدن العالم.
أما عن الانتقادات القائلة إن الإمارات تعاني من انعدام المساواة وشقاء تعاني منه العمالة اليدوية الوافدة، فحقد غير مبرر، إذ أن من مزايا الرأسمالية نشوء طبقات متفاوتة المدخول، مقارنة بالاقتصادات المفلسة التي يعيش كل ناسها — ما عدا حفنة من حكامها — في فقر وبؤس، مثل في لبنان وسوريا والعراق والأراضي الفلسطينية، ويقينا أنه لو سنحت الفرصة لأي من سكان الدول الفاشلة بالانتقال للإمارات لفعل ذلك، فالكسب من عرق الجبين — حتى لو بمدخول أدنى بكثير من أصحاب العمالة الماهرة — أفضل من الغرق في البطالة والفقر.
لكن مشعوذي القضية وأنصارهم لا يرضون بأقل من دولة فاضلة فيها تساو تام بين الناس، وفي حال عدم توفّر هذه الدولة الفاضلة، يصبح البديل برأيهم هو الحروب والمقاطعة والاغتيالات والفوضى، أو على ما يحلو للثوريين قوله أن "لا سلام بدون عدالة"، إذ ذاك يعيش أنصار القضية في دول فاشلة بدون سلام ولا عدالة، فقط حروب، وفقر، وتسلط الإسلام السياسي المنافق، وانهيار بدون قعر، ويأس بلا نهاية.
كان الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقيل يقول التالي: بيتي في منتصف زحلة، وزحلة في منتصف لبنان، ولبنان في منتصف الكون… بيتي في منتصف الكون. لم يعد لبنان اليوم في منتصف الكون، بل حلت مكانه الأمارات. الإمارات اليوم في قلب العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق