حسين عبدالحسين*
استفاقت واشنطن على البيان الثلاثي #الصيني - السعودي - الإيراني المشترك، الذي أعلن طيّ صفحة الخلافات بين الرياض وطهران، والعمل على إعادة العلاقات الديبلوماسية بين الاثنين في غضون شهرين، بعد انقطاع دام سبع سنوات.
يأتي قيام الصين بدور، لطالما قامت به #الولايات المتحدة، بعد أيام قليلة على توجيه الرئيس الصيني شي جنبينع انتقادات غير مسبوقة لسياسة أميركا الدولية؛ وهو ما يعني أن رعاية الصين الاتفاقيّة تسعى إلى سلب أميركا دورها التقليدي في رعاية الديبلوماسية الدولية والنظام الدولي بشكل عام، لا سيّما في #الشرق الأوسط.
وإيران، التي وقّعت على اتفاقية شراكة اقتصادية مع الصين مدّتها 25 عاماً، ستتفادى بأيّ شكل ممكن اختراق اتفاقيتها مع #السعودية؛ وذلك بهدف تفادي إثارة غضب الصين التي تكفل هذه الاتفاقية.
رعاية الصين المصالحة السعودية - الإيرانية يُنيط ببكين جزءاً من رعاية الأمن والاستقرار في الخليج إلى حدّ كبير، إذ أنه في حال قامت إيران أو الميليشيات الموالية لها بتوجيه ضربات ضدّ السعودية، كما فعلت في الماضي، فستكون مشكلة طهران مع بكين؛ وفي الحال هذه، تنتفي أهمية الولايات المتحدة كراعية لأمن السعودية والخليج، وهي رعاية أثبتت فشلها، إذ هي لم تردع إيران عن استهداف السعودية في الماضي، ولا فرضت على إيران ثمن زعزعتها الاستقرار، اللهم غير البيانات المملّة التي دأبت واشنطن على إصدارها.
وعليه، يُصبح السؤال: ماذا لو قرّرت الصين المضيّ في توسيع رعايتها الدبلوماسية والاتفاقيات في منطقة الشرق الأوسط، وهي الاتفاقيات التي كانت ترعاها في الماضي الولايات المتحدة، وفي أحيان كثيرة بمشاركة شركاء مثل روسيا والاتحاد الأوروبي؟! ماذا لو قرّرت الصين رعاية اتفاقية لإنهاء الصراع في سوريا وإعادة تأهيل الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه؟! ماذا لو دخلت الصين في رعاية اتفاقيات في العراق أو اليمن؟! ماذا لو قامت الصين برعاية اتفاقيات سلام بين دول عربية، مثل بين السعودية وإسرائيل، على غرار البيان الثلاثيّ الذي تمّ توقيعه في بكين يوم الجمعة؟!
كل هذه الإمكانيات واردة، إذ إن الديبلوماسية الصينية أرشق من نظيرتها الأميركية، ولا تعاني من التقلّبات الهائلة التي تعاني منها سياسة واشنطن الخارجية في كلّ مرّة تتبدّل فيها الإدارة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري.
لأميركا إمكانيّات ضخمة لا تجاريها أيّ دولة في العالم، بما في ذلك الصين. والصين لن تتحوّل إلى اقتصاد ينافس أميركا. فالفورة الاقتصادية الصينيّة تعثّرت بسبب فشل الصين في الانتقال من اقتصاد نامٍ، على شكل مصنع العالم، إلى اقتصاد متطوّر يستند إلى المعرفة، لأنّ اقتصاد المعرفة يتطلّب ديموقراطيّة ليبراليّة، وهو نموذج رفضته الصين.
لكن القوة الأميركية الجبّارة يبدو أنها عظيمة وحاسمة فقط أمام الاستحقاقات الكبرى، مثل الحربين الكونيّتين والحرب الباردة. أمّا عندما يتعلّق الأمر بديبلوماسيّة يوميّة، أو إدارة شؤون العالم، فإن أميركا تتحوّل إلى عبء على العالم؛ وذلك بسبب بُعدها عنه، وانعدام معرفة مسؤولي سياستها الخارجية بشؤونه، واعتقادهم أنّ على العالم أن يكون على صورة أميركا، بدلاً من أن تحاول واشنطن أن تفهم طبيعة السياسة في دول العالم والتعامل معها.
قد تكون الولايات المتحدة محقّة في عدم فهمها العالم، إذ هي قلّما تحتاجه، فقوّتها الاقتصادية والعسكرية الجبّارة تستند إلى قدرات أميركا الداخلية وديموقراطيتها، وقلّما تعتمد مصالح الولايات المتحدة على أحداث العالم. هكذا، وبسبب ضعف ارتباط المصالح الأميركية بالعالم، لا يرى الأميركيون ضرورة لمعرفة حضارات العالم أو التخصّص في شؤونه، بل إن الجزء الأصعب لكلّ القيّمين على السياسة الخارجية الأميركية هي محاولة إقناع الأميركيين بضرورة تدخّل بلادهم في السياسة الدولية إلى حدّ اضطرّ معظم صنّاع السياسة الخارجية الأميركية إلى تضخيم الأخطار الدولية على أميركا، وهو تضخيم وصل أحياناً حدّ الكذب، كما في قضية العراق وأسلحة الدمار الشامل.
مع انعدام الاهتمام الأميركي العام بالسياسة الدولية وشؤون العالم، يتولّى صناعة السياسة الخارجية مدرستان: "ديموقراطية" ترى أن مشكلة العالم هي القوة الأميركية وتدخّلها في شؤون العالم، و"جمهورية" ترى أن لا حاجة لأميركا بالعالم، لأنّها قويّة كفاية للدفاع عن نفسها وفرض ما تريده عندما تحتاج إلى ذلك.
في المدرستين، الفريق المولج بالسياسة الخارجيّة هو نفسه منذ عقود، يتداور على دخول البيت الأبيض والخروج منه بحسب هُويّة الحزب الحاكم.
في حالة الديموقراطيين، يُدير سياستهم الخارجية، منذ قرابة العقدين، روبرت مالي ومجموعة أصدقائه. مالي رجل عقائديّ ينحاز لـ "الجنوب العالمي" ضدّ القوة الأميركية، ويؤمن بضرورة انسحاب أميركا من شؤون العالم، لأن ذلك سيسمح للحضارات المحليّة بالازدهار، حسب اعتقاده. لكن مالي أيضا هو أكثر شخصيّة مثيرة للجدل في العاصمة الأميركية، وهو ما حرمه إمكانيّة تسلّم مناصب رفيعة تحتاج إلى مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينه، مثل منصب وزير الخارجية؛ لذا، نراه في أغلب الأحيان في مناصب مثل "مسؤول الشرق الأوسط" في مجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، أو "المبعوث المكلّف ملف إيران" في الإدارة الحالية، وكلا المنصبين وصل إليهما بتعيين لا يحتاج لمصادقة في الكونغرس.
لكنّه على انخفاض مناصبه، مالي هو أكثر أقدميّة من باقي زملائه العاملين في فريق السياسة الخارجي؛، فهو معلّم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومسؤول الشرق الأوسط برت ماكغيرك، اللذين يتبنّيان نظريات مالي في الشؤون الدولية؛ والثلاثة يعانون من غياب كامل للكاريزما، ومن انعدام الوزن السياسيّ في العاصمة الأميركيّة. لذا، تبدو سياسة بايدن وكأنّها من إعداد فريق من الأشباح الصامتين الجالسين خلف الستارة.
في مخيّلة مالي وفريقه، مثل السيناتور الديموقراطي كريس مورفي، الخليج ضعيفٌ، ولا ملجأ له ولأمنه في العالم إلّا أميركا، وهو ما يعني أنّ لواشنطن قدرة على ليّ أذرع العواصم الخليجية؛ وهذا ما كتبه كريس مورفي في دورية "فورين أفيرز" المرموقة في شباط 2021، حيث دعا إلى التخلّي عن عقيدة كارتر التي تقدّم حماية لأمن الخليج، كما دعا إلى فرض إملاءات أميركية على عواصم الخليج، بما في ذلك تقليص مبيعات الأسلحة ومحاسبة اختراقات حقوق الإنسان.
رعاية الصين الاتفاقية السعودية - الإيرانية، وتالياً رعاية الصين لأمن السعودية من الاعتداءات الإيرانية، أبطل الحاجة إلى مالي ومورفي وكلّ الولايات المتحدة. يُمكن لمالي ومورفي التنظير وإصدار التصريحات المنمّقة وكتابة المقالات في الدوريات المرموقة، لكنّ السعودية والخليج لن ينتظروا واشنطن حتى توقف مراهقتها في السياسة الدولية.
أميركا ستظلّ أقوى قوّة في العالم في المدى المنظور، ولكنّها إلى أن تفهم العالم وشؤونه، لن ينتظرها العالم حتى تفهمه، بل سيبحث عن قوى أخرى، وإن أصغر، لتُدير شؤونه حتى يواصل حياته.
* باحث في "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات" في واشنطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق