الثلاثاء، 26 نوفمبر 2019

ثورات أم مؤامرات؟

حسين عبدالحسين

في العقل "الممانعاتي"، أي عقل العرب والإيرانيين المنخرطين في "مشروع المقاومة"، لا ثورات في العالم إلا ثورتين، الإيرانية في العام 1979 والبحرينية في العام 2011، وهما ناجمتين عن وعي غالبية شعبية ضد طاغية محلي محمي بالاستكبار العالمي والإمبريالية، حسب "الممانعاتيين"، الذين يعتقدون أن الإيرانيين والبحرينيين هم وحدهم بين الشعوب ممن انتفضوا نتيجة وعيهم، لا نتيجة تحريض إمبريالي مؤمراتي.

لكن "الممانعاتيين" أنفسهم يصرّون أن التحريض الإمبريالي هو الذي أشعل ثورات لبنان في 2005 و2019، وإيران 2009 و2019، وسوريا 2011، والعراق 2019.

وفي العقل "الممانعاتي"، ثار اللبنانيون والإيرانيون والسوريون والعراقيون، إما بسبب غبائهم وعدم إدراكهم "حجم المؤامرة" التي تستهدف "مشروع المقاومة"، أو ثاروا بسبب سفالتهم وعمالتهم للاستكبار الإمبريالي ولمصالحهم الشخصية.

أما لو كان ثوار لبنان وإيران وسوريا والعراق مدركين "حجم المؤامرة" ويعملون بوطنية وضمير، فمن المستحيل أن يتوصلوا لنتيجة غير الانخراط في محور "الممانعة" ودعم "المقاومة".

لذا، على "الممانعاتيين" تحذير من يخالفهم الرأي من مغبة ما يفعلونه، إن كانوا لا يعلمون، ثم ضربهم أو اعتقالهم، أو حتى التخلّص منهم، إن كانوا يعلمون ما يفعلون ويمعنون في ثوراتهم.

هذا يعني أن "المقاومة" هي فكرة توتاليتارية شمولية، لا تسمح بتعدد الآراء، وإن سمحت به، فتسمح بتعدد الآراء في شؤون سعر البيض أو موسم التفاح، لكن أن يكون لدى أي لبناني أو إيراني أو سوري أو عراقي رأي في السياسة الخارجية مخالف لرؤية "المقاومة" حول مواجهة الاستكبار العالمي والاستعمار والإمبريالية، فخيانة تستحق كل أنواع العقاب.

وفي العقل "الممانعاتي" روايات تاريخية مزيفة منسوجة لتتناسب والسياسة الحالية لهذا المحور، فالثورة الإيرانية في العام 1979 لم تكن لتنجح لولا الدعم الغربي الإمبريالي للإسلام السياسي في حينه، بجناحيه السني في أفغانستان ودول العرب والشيعي في إيران، لمواجهة الشيوعية. اعتقد الغرب، أثناء الحرب الباردة، أن الوسيلة الأفضل لمواجهة الشيوعية وإلحادها هي دعم الأديان سياسيا، فراحت أميركا تمد مجاهدي أفغانستان بالدعم العسكري والمادي لمواجهة الاجتياح السوفياتي.

ومثل في أفغانستان، كذلك في إيران، خشيت الدول الغربية أن يؤدي انهيار نظام الشاه رضا بهلوي المريض، الذي غادر البلاد مطلع 1979، إلى قيام نظام شيوعي. هكذا، وصل طهران، بعد رحيل الشاه بأسبوعين، الخميني، آتيا من باريس على متن الخطوط الجوية الفرنسية وبرفقة أكثر من مئة إعلامي.

لماذا لم يمنع الغرب الخميني من السفر من فرنسا إلى إيران؟ الإجابة تكمن في أن الغرب كان يستعجل وصول الخميني طهران بعد خروج الشاه، لأن المحرك الأول للثورة الإيرانية كان حزب تودة، الشيوعي الإيراني، الذي كان يعمل بدعم سوفياتي.

وللمزيد من الدلالة على أن الخميني لم يكن معارضا للغرب عند اندلاع الثورة هو بقاء السفارة الأميركية مفتوحة وتعمل قرابة تسعة أشهر بعد وصوله طهران، ولو كانت الثورة الإيرانية ضد أميركا لأنها راعية الشاه، لكان الخميني أغلق سفارتها يوم وصوله.

على أن الخميني كان في سباق مع الشيوعيين للإمساك بالثورة، وهو ما دفعه للالتفاف عليهم وعلى خطابهم المعادي للإمبريالية بدفعه جماعته لاحتلال السفارة الأميركية وأخذ الدبلوماسيين رهائن.

ولمزيد من الدلالة أن أميركا كان ترغب في مصادقة نظام الخميني، لقاء مستشار الأمن القومي زبيغينيو بريزنسكي رئيس الحكومة الإيرانية مهدي بزركان في الجزائر في 1979، ثم زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي بد ماكفرلاين طهران في العام 1986 ولقائه مسؤولا في النظام كان اسمه حسن روحاني، الذي صار اليوم رئيسا.

وبعد ريغان، تواصل جورج بوش الأب مع إيران لتحييدها عن حرب تحرير الكويت من العراق، وحاول كلينتون الانفتاح على الرئيس المعتدل حسن خاتمي. وفي عهد بوش الابن، كانت اتصالات بين ريان كروكر ونظرائه الإيرانيين في جنيف، وبعدها في بغداد، للتنسيق في حربي أفغانستان والعراق. ثم كان مجيء أوباما إلى رئاسة أميركا، وارتمائه في احضان إيران، التي وقّعت عقودا بقيمة 30 مليار دولار لشراء طائرات بوينغ الأميركية. ثم وصل ترامب ونسف العلاقة مع إيران.

لا صداقة بين إيران وأميركا، لكن لا عداء على الشكل الذي يصوّره العقل "الممانعاتي". جلّ ما تفعله إيران هو السعي للتوصل لتفاهمات مع أميركا في السرّ، ومواصلة طهران التحريض الشعبوي ضد الولايات المتحدة في العلن، لأن الصراخ ضد الاستعمار والإمبريالية يسمح لـ "محور الممانعة" بالاستمرار في نهج طغيانه وتوتاليتاريته الشمولية.

والإمبريالية حجّة يستخدمها طغاة الشعوب لإخافة ناسهم واتهامهم بالعمالة "للسفارات" وقمعهم، فالإمبريالية عمرها من عمر الحضارة، وبدونها، لم تكن الإسكندرية لتحصل على اسمها من اسكندر المقدوني، وبدون المساعدة الفرنسية لم تكن الثورة الأميركية لتقتلع الحكم البريطاني، وبدون المساعدة الأوروبية، لم يشقّ المصريون قناة السويس، ولا فكّوا لغز لغة الفراعنة، وبدون الإمبريالية الإوروبية، لما زال حكم الأتراك للعرب، ولما قامت دول لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، ولما قامت بعدهم إسرائيل.

لم تحسب أميركا والغرب أن دعم الإسلام السياسي سيرتد عليها يوما، وسيكلفها حربا معقّدة على الإرهاب ومواجهة طويلة مع إيران. على أن الدعاية الإيرانية سعت إلى تشويه التاريخ بتصوير أن أميركا دعمت مجاهدي أفغانستان السنّة ضد إيران وإسلامها الشيعي، وهو أمر غير صحيح. أميركا دعمت نشوء الاثنين، بن لادن والخميني، وعانت من عواقب ذلك. ثم قضت أميركا على بن لادن، وفرضت حصارا اقتصاديا خانقا على خلفاء الخميني.

أما ثورات الناس ضد الإسلام السياسي الشيعي في لبنان وسوريا والعراق وإيران، فلا علاقة له بالحرب الباردة، ولا بالحرب على الإرهاب، بل ثورة ضد نموذج بالٍ من الحكم، يسلّم مصير الشعب إلى الماورائيات، ويسلّم إدارة البلاد إلى رجال دين لا يفقهون في الاقتصاد، ولا في الإدارة، ولا في اللغات، ولا في العلاقات الدولية، ولا في التاريخ، بل جلّ ما يعرفونه هو قصص عن أساطير خارقة، فتختلط الحقيقة بالخيال، وتختلط لقمة عيش الناس بالخطابات والبلاغة والكلام الفارغ.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008