حسين عبدالحسين
أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ترحيبه بزيارة نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، إلى تركيا الشهر المقبل، وقال أن الزيارة ”إن شاء الله ستكون جيدة لعلاقات تركيا مع إسرائيل“. إعلان أردوغان عن زيارة هرتزوغ، كان تلا زيارة قام بها الرئيس التركي إلى الإمارات، التي تتمتع حاليا بأقوى علاقات إقليمية مع إسرائيل.
وقبل التحسن الشكلي، سبق للإستخبارات التركية أن أفشلت محاولة إيرانية لخطف، وربما قتل، رجل أعمال إسرائيلي يسكن في تركيا. وفي وقت لاحق، أعلن الأمن التركي اعتقال وتفكيك خلية استخبارات إيرانية كانت مهمتها استهداف إسرائيليين.
لم يُثر عشق أردوغان المستجد لإسرائيل حفيظة أي من الفصائل الفلسطينية أو استيائها، وهي الفصائل نفسها التي ثارت ثائرتها يوم أعلنت كل من الإمارات والبحرين عن توقيعها اتفاقية سلام وبدئها بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
يصمت الفلسطينيون صمت القبور تجاه التغيرات الطارئة على سياسة تركيا. إعلام حركة حماس، الذي يوزّع شهادات بالوطنية على الناس، ويتهم أي مطالب بالسلام بالخيانة وبيع القضية، لم يتطرق إلى أي من تصريحات أردوغان حول المشيئة الإلهية التي ترعى العلاقات الجيدة بين تركيا وإسرائيل.
في نيسان أبريل 2020، وفي ذروة جائحة كورونا، قامت تركيا بإرسال طائرة محملة بالمستلزمات الطبية إلى مطار بن غوريون الإسرائيلي كمساعدة للفلسطينيين في الضفة وغزة. وجّه الفلسطينيون رسائل شكر على أنواعها لأنقرة. بعدها بأسابيع، أي في مايو 2020 وقبل توقيع الإمارات اتفاقية إبراهيم للسلام مع إسرائيل، قامت أبو ظبي بإرسال طائرة مشابهة إلى الأراضي الفلسطينية حطّت في مطار بن غوريون. رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس ومعه القيادة الفلسطينية تسلّم المساعدات الإماراتية بداعي رفض التطبيع مع إسرائيل.
لم يتفطن الفلسطينيون الى مفارقة قبولهم مساعدة تركيا ورفضهم المساعدة نفسها من الإمارات، مع أنه كان لتركيا علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل ولم يكن للإماراتيين ذلك. على أنه للأمانة، لا بد من الإشارة إلى أن رفض عبّاس المساعدة الإماراتية لم يكن رؤية استراتيجية، بل كان بسبب عدائه لمنافسه محمد دحلان، الذي يتمتع برعاية إماراتية. أما حماس، فهللت للأتراك لأن أردوغان محسوب على الإسلام السياسي نفسه الذي تتبعه حماس، فيما الإمارات تعارض إقحام الإسلام بالسياسة.
هكذا هي معظم السياسات الفلسطينية منذ قرن: شخصانية وكيدية مثل إحراق مفتي القدس أمين الحسيني بيت قريبه الذي كان ينافسه على الزعامة، متجاهلاً القضية الأكبر.
الفصائل الفلسطينية لا تستقوي إلا على العرب، وخصوصا عرب الخليج، وربما بعض مسيحيي لبنان وأي عربي لا يشتم إسرائيل ليلاً نهاراً. أما أردوغان، فله من الفلسطينيين ما لا يناله أي من العرب: حب واحترام وتقدير فلسطيني، مع أن السفارة الإسرائيلية في أنقرة لم تقفل أبوابها يوما منذ أكثر من نصف قرن، فيما علم إسرائيل يرفرف فوق ربوع العاصمة التركية.
حتى في ذروة الصراخ التركي ضد اسرائيل مناصرةً للفلسطينيين، واصلت العلاقات الأمنية والتجارية بين تركيا وإسرائيل نموها المضطرد.
وحتى لا يستنتج أي من قرّاء هذه السطور أننا ننتقد أردوغان بسبب عشقه المستجد لإسرائيل، نؤكد أننا نؤيد هذا التغيير في السياسة التركية ونثني عليه، وندعو معارضي السلام مع إسرائيل، من الفلسطينيين وعموم العرب والإيرانيين، الى الاقتداء بالرئيس التركي في تغليب المصالح على العواطف والتطبيع مع الدولة العبرية.
تغليب المصالح كان الدافع الرئيسي خلف تخلي تركيا عن طموحات إعادة ترميم الخلافة العثمانية، بالإفادة من الإسلام السياسي كوسيلة توسّع تركية. هذا التغليب هو الذي أعاد أنقرة الى سياسة ”تصفير المشاكل“ في علاقاتها الخارجية، وهي السياسة التي كانت أطلقت نمو الاقتصاد التركي قبل عقدين حتى صار سادس أكبر اقتصاد في أوروبا ومن أكبر عشرين في العالم، فتصفير المشاكل يعني فتح أسواق الإقليم أمام الصادرات التركية، فيما التوسع والتوتر يعني عداوات وإغلاق أبواب الدول وأسواقها.
ربما اعتقد أردوغان يوما أنه يمكن للاقتصاد القطري، العائم على عائدات الغاز الضخمة، تمويل مشروع الإسلام السياسي الذي يسمح بقيام السلطنة العثمانية. لكن تبين أن كل أموال الدوحة ليست كافية لوقف انهيار اقتصاد أنقرة وعملتها الوطنية، وهو ما أعاد الرشد إلى رأس أردوغان، وليته يعيده إلى رأس قادة قطر وإيران ولبنان وسوريا وميليشيات العراق واليمن.
لا نعرف المدة الزمنية التي سيعيشها أردوغان في ربوع النضج السياسي و“تصفير المشاكل“، لكنه في وقت يتبنى سياسات سلمية من هذا النوع، ستبقى الدوحة وحيدة في رعايتها المالية والمعنوية للإسلام السياسي، الماضي في التراجع والانهيار في تونس والمغرب وليبيا كما في تركيا وباقي أنحاء المنطقة والعالم.
أما حماس والفصائل الفلسطينية، فتحالفاتها من فشل الى فشل، من كنف السوفيات والشيوعية التي انهارت، إلى رحاب الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي. الإسلام السياسي السني يتداعى وسيلحق الإسلام السياسي الشيعي به عاجلاً أم آجلاً، وسيواصل الفلسطينيون مسيرتهم من خيبة إلى خيبة بدون القيام بالخطوات الأكثر نفعاً للفلسطينيين وقضيتهم، أي التخلي عن الشعبوية والشعارات، والتمثل بالسيد أردوغان في البحث عن المصلحة أولاً، والتوصل إلى ترتيبات واتفاقيات مع إسرائيل تخدم أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وترفع من مستوى معيشتهم، بالضبط كما يسعى الرئيس التركي — أولاً وأخيراً — إلى الحفاظ على مستوى حياة الأتراك، بل رفعها أكثر وتحسينها.
ليس بالأرض وحدها يحيا الإنسان. الأرض أداة لسعادة الناس ورفاههم، فإن تحولت إلى مصدر لشقائهم، لا بأس من تركها في الماضي والنظر تجاه الحاضر والمستقبل. ربما هو خطاب واقعي لا توجد قوى إقليمية أو دولية لتمويله بين الفصائل الفلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق