حسين عبدالحسين
ليس رئيس روسيا فلاديمير بوتين أول طاغية في التاريخ ولن يكون آخرها. هو شخصية مكررة ترتكز على ثقافة إنسانية سحيقة ترى القوة معيارا وحيدا للنجاح والتباهي، وهي شخصية مشابهة للراحلين الألماني، أدولف هتلر، والجورجي السوفياتي جوزف ستالين والعراقي صدام حسين، كما الأحياء منهم الإيراني علي خامنئي واللبناني حسن نصرالله.
في عام 2007، التقى رئيس فرنسا السابق نيكولا ساركوزي بوتين على هامش قمة "مجموعة الثمانية" (التي صارت "مجموعة السبعة" بعد ضم روسيا القرم الأوكرانية في 2014)، وبثت قناة "فرانس 2" وثائقيا، أشارت فيه إلى أن ساركوزي وجه اللوم إلى بوتين حول قتله أعدادا من الشيشان، واغتياله الصحفية الروسية آنا بوليتكوفسكايا، وتجاوزه حقوق الإنسان والمثليين في روسيا.
وسأل بوتين ساركوزي إن كان انتهى من حديثه ليرد، وقال بوتين إن "حجم فرنسا صغير جدا" مشيرا إلى ذلك بإصبعين، وأن "حجم روسيا ضخم"، فاتحا ذراعيه أقصى ما أمكنه. ثم أضاف بوتين بلهجة حادة قاربت الصراخ: "أما أن تواصل حديثك معي بهذا الشكل فأسحقك، أو تصمت الآن".
بعد اللقاء، عقد بوتين وساركوزي مؤتمرا صحافيا، وبدا ساركوزي مصعوقا ومرتبكا في إجاباته إلى حد دفع الإعلام الفرنسي إلى التكهن حول حالة رئيسهم بالقول إنه ربما كان مخمورا. هكذا هو العالم في مخيلة بوتين: إما ساحق أو مسحوق.
القوة هذه أسكرت زعماء كثر في الماضي، وما تزال في الحاضر.
يروي التاريخ عن ستالين أنه أثناء مفاوضاته مع الحلفاء حول تقاسم مناطق النفوذ الألمانية السابقة، لفت الغربيون إلى أن الفاتيكان دولة دينية صغيرة يجب احترام خصوصيتها وقدسية البابا، فأجاب ستالين "وكم دبابة لدى البابا هذا؟".
ومثل بوتين وستالين، ترعرع صدام في دنيا البقاء فيها للأقوى والأعنف، فارتكب أولى جرائمه بقتله جابي كهرباء كان يطالب خاله خيرالله طلفاح بمستحقات للدولة. ثم يوم تسلم صدام اللجنة الزراعية المغمورة في "حزب البعث العربي الاشتراكي"، قام بتحويلها إلى جهاز إرهاب داخل الحزب والدولة. بالعنف، سطع نجم صدام الذي تسلق إلى قمة السلطة. ثم عندما وصلها، قام بتصفية شركائه ومن وصلوا معه لينفرد بها.
ويروي صديق طفولة صدام ابراهيم الزبيدي في كتابه "دولة الإذاعة" أنه بعدما تبوأ صدام منصب نائب رئيس العراق لم يعد يعرف إبراهيم كيف يخاطبه، إن باسمه الأول، أو بلقبه الإداري أي "السيد نائب الرئيس"، أو بلقبه العائلي "أبو عدي". لاحظ إبراهيم أن صديقه صدام كان يجيبه عن أسئلته، ولكن من دون أن ينظر في عينيه بل كان يبدو منزعجا ومحرجا. كان صدام يسعى للتخلص من ماضيه، ولم يضره أن يستخدم العنف لذلك. تفطن ابراهيم للمشكلة واستبقها برحيله إلى منفى عاش فيه عقودا طويلة.
ومثل صدام، نشأ اللبناني نصرالله في النبعة، التي تعرضت لحملة إرهاب وعنف قادتها الميليشيات المسيحية مطلع الحرب الأهلية. ولم يكد نصرالله يبلغ عمر الشباب حتى انضم للميليشيا الشيعية "حركة أمل" وحمل سلاحه على كتفه. ثم بعد نجاح الثورة الإسلامية، جنّدت الاستخبارات الإيرانية نصرالله، وراهنت عليه حتى صار زعيم "حزب الله"، فزعيم كل الشيعة، فحاكم لبنان بأكمله. والرحلة إلى زعامة لبنان اضطرت نصرالله إلى التخلص من عقبات كثيرة، منهم رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري وشخصيات كثيرة غيره.
كل الطغاة ترعرعوا على العنف واستخدموه للتسلّق إلى الزعامة. ثم بعد التخلص من كل المنافسين داخليا، تربعوا على عرشهم بلا منافس، وصار مطلوبا منهم أن يحكموا. لكن الحكم يتطلب معرفة في شؤون الدولة والإدارة والتنمية والاقتصاد، وهذه أمور لا يفهمها رجل الاستخبارات بوتين، ولا بلطجي حزب البعث صدام، ولا خريج الحوزة الدينية نصرالله.
قصورهم هذا وقيادتهم البلاد نحو الجحيم أجبر الطغاة على تمديد حالة الحرب والانخراط في حروب متواصلة لأنهم لا يتألقون إلا بالعنف الذي يتحولون بدونه إلى فاشلين لا دور لهم في القيادة ولا في الدولة ولا في المجتمع. هكذا شن صدام حربين على الأقل، واحدة ضد إيران وثانية اجتاح فيها الكويت، ومثله بوتين، الذي تنوعت حروبه من إبادة الشيشان، إلى اجتياح أجزاء من جورجيا، ثم أوكرانيا، مع مشاركة في تحويل سوريا إلى ركام. ومثل صدام وبوتين، تنوعت حروب نصرالله، واحدة شنها ضد اسرائيل، تلتها حملة تأديبية ضد خصومه داخل لبنان، ثم انخراطه في الحرب السورية لدعم مجازر بشار الأسد ضد السوريين.
الحروب المتواصلة للتغطية على ضعف في الشخصية وإثبات الأحقية في الحكم تتطلب بث ثقافة الحرب والحديث عن "الانتصارات" بشكل متواصل، إن "قادسية صدام" أو "أم المعارك" في العراق، أو "الانتصار الإلهي" لنصرالله، ومثلهما يتبجّح بوتين بانتصاراته العسكرية فيما الروس يعانون من تدهور مستوى معيشتهم.
في التاريخ الإنساني، منذ بدايته وحتى عصر الأنوار، اعتقدت الشعوب أن الحاكم هو الأقوى، وأن الانتصار الحربي هو إشارة إلهية لتأكيد حق هذا الحاكم أو ذاك بالحكم. لهذا، يعبق التاريخ الإنساني بالحروب، ولهذا غالبا ما يتركز التاريخ على كتابة أحداث الحروب وتاريخ الحكام، وقلّما يلتفت إلى الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية للزمن الماضي.
لي قريب من مؤيدي نصرالله كتب على صفحته "ستُهزمون"، الأرجح يعني أن إيران ومحورها سيتغلب على الغرب وحلفائه في المنطقة ولبنان. وقريبي هذا يعيش في لبنان، ويعاني من تفشي البطالة، ومن خسارة عائلته جنى عمرها في المصارف المفلسة، كما يعاني من عدم توفر الدواء وانقطاع الكهرباء والماء. كل هذه الأمور الحيوية لا تهم قريبي. كل ما يهمه أن القبيلة التي يناصرها ستنتصر، حتى لو كان هو لن يطاله من الانتصار أو عدمه إلا المزيد من الشقاء.
هذا الشقاء هو الهوية الفطرية التي اعتبرها كارل ماركس "أفيون الشعوب"، وهو شقاء سببه تخلّف في الثقافة الاجتماعية والسياسية لا تنجب إلا طغاة ومناصرين لهم. أوكرانيا حاولت الخروج من هذا الشقاء إلى العالم المتنور، لكن الطاغية بوتين لم يتركها. بوتين بحاجة إلى المزيد من الحروب لأنه، على حسب المثال الأميركي، "إن كان كل ما يملكه مطرقة فسيرى كل شيء مسمار".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق