حسين عبدالحسين
قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987 كان يمكن للفلسطيني أن يقود سيارته من نابلس إلى صفد أو من حيفا إلى غزة. كان فلسطينيو الأراضي يعانون من الفقر وانتشار البطالة، ولكن حرية تنقلهم وعملهم كانت مكفولة بلا حواجز ولا تفتيش.
كان قائد فتح و"منظمة التحرير الفلسطينية"، ياسر عرفات، وصل مراتب أسطورية، تضمنت خطابه الشهير إلى الأمم المتحدة ولقاءات مع أبرز زعماء العالم. لكن بعد اجتياح إسرائيل بيروت وطرد عرفات إلى تونس في 1982، عانى الزعيم الفلسطيني الراحل الملل والهامشية، فما كان من أقرب مقربيه أبو جهاد (خليل الوزير) إلا أن انتهز عوز الفلسطينيين، وشرارة حادث مروري، لإشعال انتفاضة فلسطينية بالحجارة، وهي ثورة اكتسبت شعبية عالمية لأنها كانت غير مسلحة.
لإضعاف الانتفاضة، قامت إسرائيل بتصفية أبو جهاد في تونس، وهو ما زاد من هامشية عرفات، الذي وجد في يأس إسرائيل للحوار مع فلسطينيي الداخل فرصة للعودة الى دائرة الأضواء، وهكذا كان. مع حلول العام 1993، وقع الفلسطينيون والإسرائيليون اتفاق أوسلو التاريخي الذي اعترف بموجبه كل منهما بالآخر وبمبدأ العيش في دولتين متجاورتين وبسلام.
سلام أوسلو كان يعاني من ثغرتين، الأولى: أن الفلسطينيين تصوروا أن التسوية تتضمن عودة فلسطينية إلى إسرائيل، والثانية أن عرفات كان شعبويا وفوضويا ولم يف بمجمل التزاماته، خصوصا الأمنية منها، فواصل الفلسطينيون عنفهم بعد أوسلو، ولكنه لم يعد ثورة شعبية بالحجارة، بل تحول إلى عمليات انتحارية قامت بها حماس لإجهاض التسوية مع الإسرائيليين وفرض رؤيتها لنهاية الصراع: انهيار إسرائيلي شامل، وفرار اليهود، وإقامة دولة إسلامية من النهر إلى البحر.
أوقفت انتفاضة حماس الانتحارية مسار التسوية في منتصفه، وهو ما كان يناسب عرفات لأنه كان يعشق الأضواء، لا الحكم الرشيد والحلول. ومع تعطل التسوية، وخوفا من أن تسرق حماس رصيده الشعبي، سمح عرفات لمناصريه بشن الانتفاضة الثانية في العام 2000، وهو ما دفع برئيس حكومة إسرائيل الراحل آرييل شارون إلى القيام بعملية عسكرية شاملة في الضفة وغزة، مشابهة لاجتياحه لبنان قبل عقدين.
وكجزء من الحل الأمني الإسرائيلي، بنى شارون سورا أمنيا، يسميه الفلسطينيون "جدار الفصل العنصري" انتقاصا منه، ولكنه فعليا كذلك: محاولة إسرائيلية لفصل العرب عن اليهود بسبب استحالة العيش السلمي بينهما.
ماتت مفاوضات السلام مع اندلاع الانتفاضة الثانية، فحاول شارون إعادة إحياء المفاوضات بانسحابه من غزة وفرضه انتخابات فلسطينية لتجديد شرعية الحكام الفلسطينيين، وهو ما أدى لانتخاب محمود عباس، أولا رئيس حكومة ثم رئيس السلطة الفلسطينية. لكن اتضح أن عباس أضعف من عرفات وغير قادر على دفع الفلسطينيين في اتجاه التسوية، حتى في زمن الرئيس السابق، باراك أوباما، صديق الفلسطينيين الذي قدم لهم مبادرة أولمرت، التي كانت أقرب الممكن إلى حل الدولتين.
حاول عباس اختبار مزاج الفلسطينيين فأدلى بمقابلة قال فيها إن السلام لا يعني أنه سيعود إلى مسقط رأسه في صفد، أي أنه تخلى عن "حق العودة" ليسمح بقيام دولة يهودية إلى جانب العربية. تعرض عباس لهجوم إعلامي، خصوصا من حماس ومحور الممانعة الذي تقوده إيران، فتراجع عن موقفه، ولم يردّ على عرض أوباما، الذي قام بإطلاق تصريحه الشهير أنه "لا يمكن للولايات المتحدة أن تريد السلام أكثر من الطرفين المعنيين"، أي الفلسطينيين والإسرائيليين. وتحول تصريح أوباما إلى سياسة أميركا تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بغض النظر عن هوية الحزب الحاكم في واشنطن.
وأمام تعثر السلام وضعف عباس وشيوع تقارير عن فساده وعائلته وفريقه الحاكم في رام الله، برزت القوى الفلسطينية المتطرفة، هذه المرة بقيادة قطر وجناحيها الفلسطينيين: القومي العربي بزعامة عضو الكنيست الإسرائيلي السابق، عزمي بشارة، والإسلامي المتطرف الذي تمثله حماس.
على مدى الأسابيع الماضية، مع تتالي وقوع العمليات الإرهابية التي أودت بحياة 11 إسرائيليا، عجّت مواقع حماس الإعلامية بتحريض الفلسطينيين للقيام بانتفاضة ثالثة، وهو ما دعا إليه بشارة كذلك في تغريدة عن الحاجة لاستراتيجية فلسطينية جديدة على شكل انتفاضة شاملة.
على أن المشكلة تكمن في أنه، على عكس عرفات الذي قبل، أو تظاهر بقبول، حل الدولتين كمخرج للعنف الفلسطيني، لا يقبل أي من بشارة أو حماس هذا الحل، بل يدعو كل منهما إلى دولة واحدة من البحر إلى النهر. بشارة يتصورها علمانية ثنائية القومية (عرب ويهود) وحماس تتصورها إسلامية يعيش فيها غير المسلمين (بمن فيهم بشارة) كذميين ومواطني درجة ثانية.
وسيناريو الدولة الواحدة استلهمه بشارة من أستاذ الأدب الفلسطيني الأميركي الراحل إدوار سعيد، الذي تصور أن الأمر الواقع في إسرائيل والأراضي، أي أن الاختلاط السكاني، جعل من الانفصال وحل الدولتين أمرا متعذرا، وفرض قيام دولة واحدة كحل وحيد.
وفي سبيل تسويق الدولة الواحدة، تكفل بشارة بتمويل جمعيات حول العالم بأموال قطرية، من واشنطن ونيويورك إلى لندن والناصرة. وراحت هذه تشيع أن إسرائيل دولة "آبرثايد"، وهو ما يعني أن الحل الوحيد هو استبدالها بدولة ثنائية القومية. وحملت جمعيات دولية، مثل العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، هذه الفكرة، التي من المتوقع أن يتبناها "مجلس حقوق الإنسان" في الأمم المتحدة.
وتزامن تحريض بشارة للجمعيات الدولية مع تحريض حماس لفلسطينيي الداخل. ومثل حماس فعل مناصرو "حزب الله" و"إيران" إذ أن انتفاضة فلسطينية ثالثة تشتت انتباه إسرائيل عن البرنامج النووي الإيراني وتثنيها عن محاولة تدميره.
لكن ما جدوى انتفاضة فلسطينية ثالثة؟ هل سينسحب الإسرائيليون من كل أراضي إسرائيل كما فعلوا في غزة وجنوب لبنان، أم كما فعلت أميركا في أفغانستان؟ وهل تتفكك دولة إسرائيل على غرار دولة البيض في جنوب أفريقيا؟
لا شك أن الفلسطينيين العقائديين، من أمثال بشارة وحماس وغيرهم، يتصورون سيناريو تفكك إسرائيل وظهور دولة فلسطين بدلا منها ممكنا، بل قريبا، وهو ما يعيدنا إلى الأوهام العربية نفسها منذ ثورة 1936، وهي أوهام تراهن على وهن، بل ذعر، إسرائيلي.
على أن من يطالع كتابات الإسرائيليين وتصريحاتهم منذ بدء المشروع الصهيوني قبل أكثر من قرن، سيرى أن دولة اليهود تقوم على أسس متينة جدا، متجذرة بشعور المظلومية التاريخية لليهود، وتردادهم أن "لا دولة لدينا غير هذه"، أي إسرائيل.
والتصميم الإسرائيلي على سيادة يهودية، مقترنا بالإمكانيات الهائلة للشعب والدولة، لا العسكرية فحسب بل العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، كلها تشير إلى أن انتفاضة فلسطينية ثالثة أو رابعة أو خامسة ستلقى المصير ذاته: المزيد من الشقاء الفلسطيني وزيادة في وحدة الإسرائيليين واتجاههم نحو اليمين سياسيا.
ستكون أي انتفاضة فلسطينية ثالثة مشابهة لحرب روسيا على أوكرانيا: أوهام وأخطاء في الحسابات وتعثر في تقدير القدرة الذاتية وقدرات الخصم، ولو كان السيد بشارة محنكا كما يعتقد، لما وجد نفسه في المنفى، ولو كانت حماس تتعلم، لما جددت حروبها مع إسرائيل وصوّرت كل هزيمة انتصارا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق