حسين عبدالحسين
أكدت تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول "تغيير فرنسا عقيدتها" تجاه الرئيس السوري بشار الأسد ومصيره في الحكم، أن العواصم الغربية تشهد تغييراً ملحوظاً في موقفها من الحرب السورية المندلعة منذ العام 2011.
وبرر ماكرون التغيير في موقف بلاده من الأزمة السورية بالواقعية، معتبراً أن التمسك برحيل الأسد في الماضي لم يفض الى النتائج المرجوة، وأن على العالم العمل من اجل تثبيت الوضع السوري بانهاء الحرب والالتفات الى مرحلة "ما بعد الصراع".
والواقعية هي عنوان يطلقه الغرب عادة لتبرير تجاوزه مبادئ التنوير التي ينادي بها، إلى حد أن الواقعية صارت تعني فعلياً الالتفاف على مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، وصارت تعني أيضاً تخلي الغرب عن مبادئه، وتمسكه بقاعدة أن "الغاية تبرر الوسيلة"؛ فإن كانت الغاية تثبيت الأمن في مناطق النزاع حول العالم، فلا ضير من التغاضي عن الوسيلة، اي اطلاق ايدي الطغاة ممن يمكنهم تثبيت الأمن في بلادهم وتأمين مصالح الغرب.
ولا يتحرج الغرب الديموقراطي بعلاقته مع الطغاة. ويردد بعض الاميركيين المقولة الشهيرة لوزير الخارجية الاميركية الأسبق هنري كيسنجر، الذي أجاب عن سؤال حول لا مبالاة اميركا في علاقاتها مع "أبناء الكلبة" من الطغاة حول العالم بقوله "صحيح انهم ابناء كلبة، ولكنهم ابناء كلبتنا نحن".
والرئيس الفرنسي ماكرون يشبه الى حد بعيد الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما، فالاثنين وصلا سدة الرئاسة على ظهر موجة شعبية عارمة بسبب الكاريزما التي يتمتعان بها، والاثنين يعانيان من صغر السن وقلة الحنكة في الحكم، خصوصاً في السياسة الخارجية، والاثنين يعتقدان انهما قادران على تقديم بعض الافكار الجديدة الخارجة عن المألوف، والواقعية في الوقت نفسها، للتوصل الى حلول لمشاكل العالم.
هكذا انهار العراق على أيدي أوباما وولد تنظيم "الدولة الاسلامية"، وهكذا توصل أوباما الى تسوية نووية مع ايران حررت طهران من اقسى العقوبات الدولية واطلقت أيدي ميليشياتها في المنطقة، وهكذا حاول أوباما "الانخراط مع الأسد" لولا ان السوريين انتفضوا على اربعة عقود من الحكم الدموي لآل الأسد، توجها الأسد الابن بإثبات دموية عائلته وقصفه السوريين بأسلحة كيماوية محظورة دولياً.
وكما أوباما، المغرور بآرائه في الشؤون الدولية على الرغم من عبطه، كذلك ماكرون، الذي يعتقد انه عثر على ضالة العالم للتوصل الى حل سوري، بتبنيه مقولة ان رحيل الأسد ليس شرطاً للتسوية، وانه لا بد من الانخراط مع الأسد في حوار يهدف الى تثبيت الوضع السوري واعادة الأمن.
ولأنه حديث السن في السياسة، لا يدرك ماكرون انه يقدّم ما يعشقه الطغاة لناحية وضع الأمن في مواجهة مع الحريات، وتخيير العالم بين طغيان دموي او انفلات امني. في لبنان، هدد نظام الأسد مراراً بأن خروج قواته من "القطر الشقيق" يؤدي الى حرب اهلية، وفي سوريا ردد مناصرو الرئيس السوري "الأسد أو نحرق البلد"، وفي مصر برر وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي انقلابه العسكري على الرئيس محمد مرسي بالقول إنه لولا تحرك الجيش لدخلت مصر في اتون الحرب الاهلية ولوصل الدم الى الركب.
ومثل الأسد والسيسي، هدد بوتين الروس، يوم خرجوا بعشرات الالاف للاعتراض على رئاسته المستمرة منذ اكثر من عقد ونصف العقد، بأن التظاهرات في دول "الربيع العربي" افضت الى نتائج دموية واضحة، كما في سوريا وليبيا واليمن.
بتغييره عقيدة فرنسا، وربما أوروبا بأكملها وأميركا، يطلق ماكرون إشارات مفادها ان الغرب لا يأبه لمبادئ الديموقراطية والحرية، بل إنه يولي مصالحه اولوية على مبادئه، ويفضل أن يعود الأسد للامساك بسوريا، وإن بالحديد والنار، فالأسد -حسب المقولة الاميركية- هو "الشيطان الذي نعرفه"، وهذا دائماً خير من "الشيطان الذي نجهله".
قد يكون ماكرون على حق. ربما بقاء الأسد افضل من رحيله، إذ إن في بقاء الأسد، يموت السوريون بكرامتهم تحت انقاض بيوتهم. أما في محاولة الاطاحة بالأسد، يموت السوريون في قعر البحر الابيض المتوسط وهم يستجدون اللجوء الى اوروبا، التي اقفلت ابوابها واعلنت أن انسانيتها، التي تتغنى بها منذ قرنين أو اكثر، هي مادة للكراسات فقط ولا تصلح للواقع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق