الثلاثاء، 11 يونيو 2019

المسلمون والتاريخ

حسين عبدالحسين

اللمحة الموجزة التي حاولنا تقديمها في المقالة السابقة عن علاقة مدينة القدس بالمسلمين أثارت ردود فعل لدى القراء تشي بأزمة ثقافية يعيشها مسلمون كثر يستقون ما يعرفونه عن الماضي، والحاضر، من نصوص دينية لا تفي بالغرض.

ومما قلناه إن تفسير آية "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى" والقول إن "المسجد الأقصى" هو نفس المقصود في القدس اليوم، هو تفسير يتعارض والمنطق.

ويؤرخ المسلمون المساجد، فيعتبرون أن أول مسجد هو قباء، على طريق مكة إلى المدينة، وهو سابق للمسجد النبوي. أما المسجد الحرام، فتسميته القرآنية بيت، وهو لم يتحول مسجدا إلى ما بعد فتح مكة، في العام 629، ما يتطلب تغيير تاريخ الإسراء من ما قبل الهجرة، حسب الاعتقاد السائد، إلى ما بعد فتح مكة، أي بعد هدم الرسول الأصنام، إذ لا يمكن السجود في مكان كان يعج بالأصنام، مثل الكعبة قبل الهجرة، وتسميته المسجد الحرام.

هذا يعني أيضا أن القدس لم تحصل على مسجد حتى العام 637، أي بعد وفاة الرسول بخمس سنوات، ما يعني أن القول إن الرسول زار المسجد الأقصى في القدس لا يتوافق والتسلسل التاريخي، فالقدس في حياة رسول المسلمين كانت مدينة مسيحية بيزنطية، يصعب أن يكون فيها مسجدا يمكن للرسول الإسراء إليه.

ردود فعل القراء جاءت على أشكال، غالبها شتائم، واتهام بالدعاية للصهيونية، وتعيير باسم "عبدالحسين" "الشيعي الرافضي"، وعدد منها حاول، مشكورا، الانخراط في نقاش لدحض ما قدمناه.

الرد الأكثر تكرارا كان اعتبار أن في القدس مسجد سابق للإسراء، بناه ابراهيم، جد الإسرائيليين والعرب، والنبي لدى المسلمين. هذا التصور مبني على اعتبار أن ابراهيم كان يتحدث العربية، ومبني أيضا على اعتبار أن العربية هي "لغة البشر"، أو "لغة الجنة" حسب المسلمين. لكن عربية القرآن هي لغة حديث نسبيا، ظهرت مع الإسلام، أو قبله بوقت قصير. حتى امرؤ القيس، الملك والشاعر الشهير، حجر قبره منقوش بالنبطية المتأخرة، وفيه أن "ملك العرب" توفي في العام 328 ميلادية. والأرجح أن العرب لم يتسمّوا عربا على اسم لغتهم، بل هم منحوا اللغة، التي بدأوا يتحدثونها في وقت لاحق للقرن الرابع الميلادي، اسمهم.

جواد علي، المؤرخ العراقي الراحل المعروف بموسوعته الضخمة "تاريخ العرب قبل الإسلام"، يرفض تصور العرب لتاريخ لغتهم، والذي ينص أن العرب تسموا كذلك لأن جدهم الأكبر، يعرب، كان أول من تحدث العربية، وهو تفسير غير قابل للتصديق، إذ يستحيل أن يبتكر شخص لغة بأكملها من مخيلته، وأن تتحول إلى لغة محكية، فاللغة هي تطور في التعبير والتواصل بين أفراد مجموعة بشرية كاملة، ولا تخرج من رأس أفراد على غفلة.

ابراهيم لم يتحدث العربية، والعرب بعد الإسلام صنفوا أنفسهم إلى ثلاث فئات، العرب البائدة والعرب العاربة والعرب المستعربة؛ ووضعوا اسماعيل، ابن ابراهيم، في خانة المستعربين، وقالوا إنه تعلم العربية، فصار مستعربا. ورسول المسلمين محمد هو من نسل اسماعيل، حسب الروايات. إذن الرسول هو من العرب المستعربة. وإذا كان اسماعيل هو الذي تعرب، لا يمكن للغة أبيه ابراهيم أن تكون العربية، ولا بد أن تكون شيئا آخر، ونحن إن صدقنا الروايات غير العربية، نستخلص أن ابراهيم تحدث الآرامية، أي أننا إن اعتبرنا أن ابراهيم شيد موقعا للعبادة في القدس، فالموقع لم يكن مسجدا، ولا الديانة الإبراهيمية كانت ناطقة بالعربية، حتى لو كانت توحيدية.

نقطة ثانية مرتبطة بإبراهيم تتعلق بهويته. ابراهيم هو جد العبرانيين، من أمهم سارة، وجد العرب، من أمهم هاجر، ومن هم من نسل هاجر يفترض أنهم تعربوا، إذن تعربوا من كونهم عبرانيين، وهو ما يعني أن ابراهيم نفسه كان عبرانيا من نسل عابر، وهو ما يعني أن النبي محمد نفسه كان من نسل عبراني، قبل أن يتعرب جده اسماعيل، وهو ما يعني أنه لو كان فعلا يوجد مكان عبادة وصله الرسول ليلة الإسراء، لكان مكانا عبرانيا سكانه ينطقون بالأرامية واليونانية، ولم يكن تحول إلى مسجد بعد، وربما كان موقعا مسيحيا يعج بالصلبان، وهو ما يمنع صلاة المسلمين ويبطلها.

هذه الأفكار مبنية على ربط بسيط للروايات الإسلامية العربية السائدة، مع تعريج بسيط على بعض العمل التاريخي المبني على نقش النمارة، أي قبر امرؤ القيس، والاستعانة بالتسلسل التاريخي لوضع آية الإسراء في سياقها.

المشكلة أن غالبية المسلمين اليوم تتصور تاريخها بشكل يعكس وضعها الحالي، المعادي لليهود، وتحاول تأكيده بنصوص دينية يمكن تأويلها بأشكال كثيرة، وهي عادة قديمة. المؤرخة اللبنانية ناديا الشيخ اصدرت بحثا قبل عقود حول الآية "غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون". وكلمتا غلبت وسيغلبون تعتمد على التحريك، الذي يحولها من فعل معلوم إلى مجهول، وبالعكس. ولأن التحريك عملية تلت تدوين القرآن بفترة، اختلفت القراءات بين المسلمين على مر العصور. وتظهر الشيخ أن طريقة تحريك المسلمين للكلمتين كانت تعكس علاقة المسلمين بالروم، فإن كانت طيبة، تشير الآية أن الروم سيفوزون، وفي الأزمان التي كانت علاقة المسلمين بالروم عدائية، قرأ المسلمون الآية بشكل يشي بأن الروم سينهزمون.

الحاضر غالبا ما ينعكس على تفسير التاريخ، حتى لو كان تفسير النص نفسه. ربما هذا هو سبب إصرار غالبية مسلمة اليوم على تفسير الآيات المتعلقة بالقدس، أو باليهود عموما، بشكل عدائي. ربما لو خرج مؤرخ قبل ثلاثة قرون، يوم كانت القدس تحت سيطرة عثمانية وتعيش على الهامش، وقال إن "المسجد الأقصى" في آية الإسراء لا بد أن يشير إلى موقع آخر، لكانت غالبية المسلمين تعاملت مع الأمر وكأنه تجديد في التفسير التاريخي وتباين في وجهات النظر التي تحتمل التأويل.

لا بد من فصل التاريخ عن الدين، وفصل الدين عن السياسة، فالتاريخ للتاريخ، والدين غذاء للروح، والسياسة سباق مصالح، فإن دخلت السياسة على التاريخ والدين، أفسدتهما، وان دخل التاريخ والدين على السياسة، أفسداها كذلك.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008