حسين عبدالحسين
أعلنت السلطة الفلسطينية "تأجيل" انتخابات "المجلس التشريعي"، التي كانت مقررة في الثاني والعشرين من الجاري، تحت ذريعة أن إسرائيل منعت تنظيمها في القدس الشرقية، وهو عذر أقبح من ذنب، اذ أن أي عملية انتخابية في العالم لا ترتبط بمكان تواجد الناخب أو الجغرافيا، بل تسمح بالاقتراع بالبريد أو عن بعد، أو كان يمكن للمقدسيين الفلسطينيين الاقتراع في مراكز في الضفة الغربية، تحت سيطرة السلطة ومجاورة للقدس.
أول صراخ ارتفع ضد التأجيل جاء من حركة حماس، التي كانت تعتقد أنها ستفوز بغالبية المقاعد، ما يسمح لها بالسيطرة على السلطة. واحتجّت الحركة الإسلامية أن رئيس السلطة محمود عبّاس، ومعه إسرائيل والعالم بأسره، تآمروا لإجهاض "الديمقراطية" الفلسطينية.
إلا أن الديمقراطية الفلسطينية ميتة منذ عقود، لا لأن السلطة لم تجر أي انتخابات منذ العام 2006، بل لأن ميليشيا حماس المدججة بالسلاح تقوّض الحرية اللازمة لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
قبل أشهر، حاول نفر من شباب غزة عقد "حوار للسلام" عبر الإنترنت مع نظراء لهم في إسرائيل. عرفت حماس فاعتقلت الشباب الغزاويين بتهم التواصل مع العدو والتطبيع والجاسوسية. هذا مثال على استحالة إجراء انتخابات حرّة في قطاع غزة، الذي يعيش تحت حكم ميليشيا قروسطوية مسلّحة، وهو ما يعني أنه حتى لو أراد غزاويون تنظيم حزب يطالب بنزع سلاح حماس، أو بعقد سلام فوري وغير مشروط مع اسرائيل، لا يمكن لهذا الحزب التنافس في الانتخابات، وهو ما يعني أن الانتخابات لا يمكنها أن تكون ديمقراطية في ظل سيطرة الشعار الفلسطيني المبرر للاستبداد، والقائل إن "الخيانة ليست وجهة نظر".
ومشكلة استحالة إجراء انتخابات حرّة ونزيهة ليست في الأراضي الفلسطينية وحدها، بل في كل الدول التي تنشط فيها ميليشيات مسلحة خارجة عن القانون، مثل في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن. في كل واحدة من هذه الدول، تتحكم ميليشيات مسلحة لا تأتمر بسلطة دولة منتخبة، أو أجهزة استخباراتية تابعة لحاكم غير منتخب، بمفاصل الحياة العامة، وتحدد كيف تكون الوطنية وكيف تكون الخيانة، تحت طائلة إقصاء المعارضين بتهم الخيانة، أو قتلهم، أو دفعهم للمنفى.
المثير للاهتمام في نماذج البلدان التي تعاني من انتخابات شكلية ودول فاشلة هو أن حكامها وميليشياتها يقدمون "القضية الفلسطينية" كمبرر لحيازتهم السلاح الخارج عن الشرعية، ولا يرون أن هذا السلاح نفسه هو العائق الأول لبناء دول ديمقراطية، وتاليا العائق الأول لبناء دولة فلسطينية.
ولحماس و"الجهاد الإسلامي" وحزب الله و"الحشد الشعبي" رؤية متخلّفة عن مفهوم الدولة، إذ تعتقد هذه الميلشيات أن الدولة هي الأرض ومن يحكمها، لا المؤسسات وكيف يتم حكمها. لبنان مثلا، أرضه حرّة ومحررة من أي وجود لأي قوات أجنبية، لكن مع ذلك يبقى لبنان، مثل غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، دولة فاشلة، وهو ما يؤكد أن الأرض لا تصنع دولا، بل المؤسسات والديمقراطية وحرية الرأي هي التي تصنع حضارات ودول وازدهار وتقدم.
وميليشيات الإسلام السياسي، التي يرعاها النظام الإيراني في عموم منطقة الشرق الأوسط، لا يبدو أنها تفهم معنى الحرية أبدا، ومع ذلك تراها تطالب بالانتخابات، وتخال أن الانتخابات وحدها هي الديمقراطية، فيما الانتخابات هي فعليا واحدة من أدوات كثيرة لصناعة ديمقراطية. والانتخابات وحدها لا تكفي للتوصل إلى ديمقراطية، بل هي تحتاج إلى عدالة وحرية وقانون، وكل هذه تغيب في الدول التي تتحكم بها الميليشيات.
الميليشيات تعتقد أن الدولة هي أرض وعقيدة وطنية ثابتة، وتحت هذه العقيدة تندرج "مبادئ" و"مقدسات" هي خارج النقاش. مثلا، في بيان تعليق حماس عل "تأجيل" الانتخابات، ورد أن الحركة تدعو إلى "التداعي وطنيا لوضع خارطة طريق وطنية تنهي حالة التفرد، وتحقق الوحدة الوطنية على أسس سليمة وصلبة تضمن إنجاز الإصلاح السياسي الشامل، وتوجيه كل الجهود نحو مقاومة الاحتلال والاشتباك معه".
البيان يشي بأن حماس لا ترى أن الحرب أو السلم مع إسرائيل هما خياران سياسيان خاضعان للنقاش، بل تعتقد أن "الاشتباك مع إسرائيل" هو بمثابة دستور. ومثل حماس، فرض "حزب الله" أساسا لكل بيان تشكيل حكومة مبني على ما يسميها ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة"، وكأن الجيش والمقاومة ليسا من الشعب. وهذا البند هو الذي يستند إليه الحزب ليستقي شرعية من دولة لبنان.
الإسلام السياسي مثل حماس و"حزب الله" لا يريان في الانتخابات إلا أداة للسيطرة على الدولة والاطاحة بالمسؤولين الفاسدين، من المنافسين السياسيين فقط. ولا ترى هذه الحركات الإسلامية أن دور الانتخابات يتضمن نقاشات وقرارات في كل شؤون الشعب والدولة، بما في ذلك السياسات التي تصفها الميليشيات على أنها خيانة.
منذ أيام وعيي السياسي الأولى وأنا أناصر الانتخابات بكل أشكالها وكيفما اتفق، وساندتها وراهنت عليها كبديل لطغاة من أمثال العراقي صدام حسين والسوري بشار الأسد والمصري حسني مبارك. فاتني أن الديمقراطية تحتاج إلى مقومات أكثر من الانتخابات، وأنه بدون توفر هذه المقاومات، تتحول الانتخابات الى أداة لتسلّق طغاة جدد — مثل الميليشيات الإسلامية — سلم الحكم، ولا داعي للتذكير بأن أكثر طاغية مجرم في العالم، أي الألماني أدولف هتلر، وصل إلى السلطة بانتخابات، ولم يتركها بعد ذلك، ومثله فعلت حماس، وتسعى لتوسيع تسلطها في جولة انتخابية ثانية تنتزع بها الضفة من حكم فاسد، وإن أقل طغيانا وأكثر عقلانية من الإسلاميين.
هذه المرة الأولى في حياتي التي أكتب فيها ضد الانتخابات. هذه المرة أعارضها الانتخابات في الأراضي الفلسطينية، وسأكتب مستقبلا مناهض للانتخابات في لبنان والعراق وإيران، فلا حرية في ظل الميليشيات، ولا انتخابات بلا حرية، ولا ديمقراطية بلا انتخابات حرة، ولا دولة فلسطينية — ولا لبنانية ولا عراقية ولا سورية — بلا ديمقراطية.
أما الانتخابات في ظل الميليشيات وطغيانها، فعملية تجميل لوجه الإسلام السياسي القبيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق