حسين عبدالحسين
ما الذي يجعل المملكة الهاشمية في الأردن واحة استقرار ونمو اقتصادي يخالف الانهيار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد في باقي دول المشرق العربي- سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية- فضلا عن العراق؟
الإجابة معقدة، ولكن يمكن تبسيطها بالإشارة إلى أن الأردن هو الدولة الوحيدة التي هزمت "الفوضى الثورية" التي تجتاح المشرق والعراق منذ منتصف القرن الماضي، وهي الموجة التي اتخذت لنفسها وجها عروبيا علمانيا ناصريا في العقود الأولى، ما لبث أن انقلب إلى وجه إسلاموي يطلق على نفسه تسمية "محور الممانعة" أو "المقاومة" أو غير ذلك من التسميات الشعبوية المراهقة.
أثمر تفوق الملكية الهاشمية على الفوضويين الثورويين — عروبيين وإسلامويين — استقرارا انعكس إيجابا على الاقتصاد الأردني. وكان الأردن أول من رفع الشعار الوطني "الأردن أولا" يوم قام ملكه الراحل الحسين بحسم المواجهة ضد الفصائل الفلسطينية التي استباحت الدولة باسم "تحرير فلسطين". واستكمل الملك الحسين تقديمه المصلحة الأردنية على مصالح "الأشقاء العرب" بتوقيعه اتفاقية سلام مع إسرائيل، وهي اتفاقية عززت ثقة العالم ومستثمريه بالأردن، الذي نما اقتصاده بسرعة كبيرة على مدى العقد الأول من هذا القرن.
وبسبب استقراره الأمني ونموه الاقتصادي، تحوّل الأردن وطنا بديلا، لا للاجئين العراقيين (منذ زمن الراحل صدام حسين) فحسب، بل للاجئين السوريين بعد ذلك، واليوم يفتح أبوابه للاجئين اللبنانيين. واللاجئون لا يسكنون جميعهم مخيمات الأمم المتحدة، بل منهم كثيرون من المتموّلين والتجار وحاملي الشهادات العليا. هكذا تضاعف عدد سكان الأردن من خمسة ملايين في العام 2000 الى 10 ملايين اليوم.
هذا النوع من الزيادة السكانية السريعة غالبا ما يؤدي إلى اهتزاز الدول المضيفة، وأحيانا لانهيارها، والأردن ليس استثناء، بل هو يعاني من صعوبات، لكن اقتصاده ينمو بشكل يعكس قدرة التغلب على الأزمات، في وقت تستعين عمّان بشبكة صداقات دولية متينة سببها سياسة عدم الانحياز التي تتبناها المملكة منذ عقود.
مثلا، يوم وقعت قطيعة بين قطر وباقي دول الخليج، سحب الأردن سفيره من الدوحة في خطوة حظيت بتغطية إعلامية، لكنه لم يقم بقطع العلاقات الديبلوماسية مع قطر.
وعلى طراز سياسة الكويت الخارجية، المعروفة بالإنكليزية بسياسة "السير على السور"، دأبت عمّان على الحفاظ على أكبر عدد من الصداقات، حتى بين الدول المتنافسة. ومن صداقات الأردن علاقة مع دولة إسرائيل تعود على الأردنيين بفوائد اقتصادية جمّة.
وسياسة الحياد التي يتبناها الأردن والكويت هي التي ينادي بها بطريرك الموارنة كسياسة دولة لبنان، لكن لبنان يقع تحت لعنة "محور المقاومة"، وتتسبب له الحروب والانحيازات الإقليمية المتواصلة بانهيار اقتصادي مؤلم.
لكن على خلاف الكويت، الدولة الصغيرة صاحبة الاحتياط النفطي الضخم وصاحبة أكبر صندوق سيادي في العالم، لا يتمتع الأردن بطاقة للتصدير أو بمواد أولية يمكنها اثراء سكانه. مع ذلك، نجحت سياسات الأردن في التخفيف من قسوة الطبيعة الصحرواية القاحلة للبلاد على معيشة السكان، وهو ما أدى إلى نمو اقتصاد الأردن حتى صار حجمه أكبر من حجم اقتصاد سوريا ولبنان.
وفي وقت يعاني لبنان- بسبب انحيازه لإيران ضد دول الخليج- من إقفال دول الخليج والعالم أسواقها في وجه صادراته، التي بلغت بالكاد أربعة مليارات دولار في العام 2020، تعدت صادرات الأردن للعام نفسه عتبة الثمانية مليارات دولار.
ويصدّر الأردن ربع صادراته إلى الولايات المتحدة، و10 في المئة منها إلى الهند، وتتضمن هذه الصادرات صناعات نسيجية، في دولة لا قطن فيها ومياهها شحيحة، وتبلغ قيمة الصادرات النسيجية أكثر من مليار ونصف المليار دولار، فيما تبلغ قيمة صادرات الأدوية المصنّعة في الأردن 700 مليونا.
وإلى الصادرات الصناعية، نجح الأردن في تصدير الخدمات، إذ يحصد القطاع الصحي الأردني مليار دولار من 10 مليارات ينفقها عرب الخليج والعراق على "السياحة الاستشفائية"، كما حققت الخطوط الملكية الأردنية أرباحا سنويا بقيمة 160 مليون دولار في العام 2019، وذلك غالبا بسبب الرحلات المباشرة بين الأردن والولايات المتحدة وكندا (والمتعذرة على خطوط جو العراق وسوريا ولبنان لأسباب أمنية). وللمقارنة، تبلغ قيمة المساعدة التي سيقدمها المجتمع الدولي لشراء غاز مصري لتزويد لبنان بساعات قليلة من الكهرباء 200 مليون دولار سنويا.
ومن المشاريع الدولية كذلك إمكانية شراء العالم كهرباء أردنية للبنان لأن الأردن يتمتع بفائض، وهو ما يُظهِر الفارق بين عمّان، التي بنت بنى تحتية تنتج فوائض، مقارنة بالعراق وسوريا ولبنان، التي أنفقت أموالا طائلة لم ينجم عنها معامل إنتاج كهرباء تعمل بسبب الفساد المدقع.
ولأن الأردن يعاني شحّا في المياه وبعض التباطؤ الاقتصادي، أعلن وزيرا اقتصاد الأردن وإسرائيل توقيع اتفاقيات قضت بمضاعفة إسرائيل كمية المياه التي تزودها للأردن حتى تبلغ 50 مليون مترا مكعبا سنويا، كما قضت بزيادة صادرات الأردن إلى الضفة الغربية من 160 مليون دولار حاليا إلى 700 مليونا، وهو ما يعني زيادة نصف مليار دولار سنوية في إجمالي صادرات الأردن، أي نمو بنسبة ستة في المئة.
ومن شأن توقيع اتفاقيات السلام بين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، من ناحية، وإسرائيل، من ناحية ثانية، أن يمنح الأردن فرصا اقتصادية أكبر كبوابة للتجارة والاستثمار بين إسرائيل وباقي الدول العربية. ولو أن العراق وقّع اتفاقية سلام مع إسرائيل، لارتفع الناتج المحلي للفرد لكل من العراق والأردن وإسرائيل بنسب كبيرة. لكن العراق مشغول بالأساطير الثورية التي تُغرِقُه في الفقر والبؤس.
الأردن من الدول النامية اقتصاديا، وما زال يعاني من نسبة بطالة مرتفعة. لكن بالمقارنة بالدول الفاشلة المحيطة به- العراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية- يبدو الأردن واحة استقرار ونمو وبحبوحة، ويبدو بارقة أمل في منطقة مستقبلها قاتم أكثر من حاضرها.
أما الدول الثورية في العراق ولبنان وسوريا، فما عليها إلا التشبه بالأردن وحذو حذوه، والتركيز على السلام والحياد والنمو الاقتصادي والمعرفي والاجتماعي، بدلا من حالات الانهيار واليأس التي تعيشها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق