حسين عبدالحسين
كان لافتا تصريح ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، الذي قال فيه "لا ننظر إلى إسرائيل كعدو بل كحليف محتمل. وكان لافتا أيضا رد الأمير السعودي على سؤال حول موقف الرئيس جو بايدن من السعودية بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، إذ قال إن علاقة بايدن بالسعودية تعود إلى بايدن و"متروك له التفكير في مصالح أميركا".
هذه تصريحات تعكس التغيير الجذري في السياسة الخارجية السعودية. منذ تأسيس المملكة وحتى وصول محمد بن سلمان، كانت علاقات السعودية الخارجية تشبه الولاءات القبلية، أي أن الرياض رمت نفسها في أحضان واشنطن، ووافقت — غالبا بدون شروط — على كل الطلبات الأميركية. في المقابل قدمت الولايات المتحدة حماية عسكرية ودبلوماسية كاملة للسعودية.
مع "الأمير محمد" تغيرت السياسة الخارجية السعودية من صداقات وولاءات إلى مصالح، وتبنى الأمير الشاب مقولة أن في السياسة الدولية "لا أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين، بل مصالح دائمة". هذه المقولة هي أساس تصريح محمد بن سلمان حول موقف السعودية من إسرائيل، الذي لم يعد موقفا عقائديا أو عاطفيا، بل صار موقفا مصالحياً يضع مصلحة المملكة ومواطنيها فوق كل الاعتبارات الأخرى.
بين السعودية وإسرائيل اليوم سلسلة من الأهداف المشتركة المتوسطة والبعيدة المدى، تتصدرها مواجهة النموذج الإيراني الديني التوسعي، القائم على إضعاف حكومات الدول المجاورة وتسليط ميليشيات موالية لإيران عليها.
وتخشى السعودية وإسرائيل حيازة "الجمهورية الإسلامية" في إيران سلاحا نوويا، خصوصا في وقت يشاهد العالم كيف تبتلع روسيا، ذات الجيش الضعيف، أوكرانيا، فقط لأن روسيا تتمتع بترسانة نووية تجعل من تصدي العالم لها بحرب مباشرة عملية انتحارية للكوكب بأكمله، وهو ما يطرح السؤال: لو امتلكت إيران سلاحا نوويا، ما الذي يمنعها من الاستيلاء على البحرين، التي يراها النظام الإيراني محافظة إيرانية تاريخيا، بالضبط كما ترى موسكو أوكرانيا أرضا روسية؟
وبين السعودية وإسرائيل إمكانيات تكامل اقتصادية ضخمة، فحجم اقتصاد السعودية يبلغ 700 مليار دولار وإسرائيل 400 مليارا، وإن تمت إضافة الإمارات التي يبلغ حجم اقتصادها 420 مليارا، يصبح حجم الاقتصادات الثلاثة بحجم اقتصاد كوريا الجنوبية، وهو عاشر أكبر اقتصاد في العالم.
يقود محمد بن سلمان أكبر عملية تحديث في المنطقة، وهو بحسب مجلة أتلانتيك، التي أجرت معه الحوار الذي قال فيه إن إسرائيل ليست عدو السعودية، أتم ثلاثة أرباع عملية انتقال حكومة بلاده من "ملك قبلي ذي وجه ديني إلى حاكم قومي لا ديني على الطراز التقليدي" المعروف.
هذا يعني أن تفكير "الأمير محمد" حول القضية الفلسطينية خرج عن الخطاب الخشبي السائد منذ قرابة قرن، والمتمسك بالقيمة العاطفية والدينية لبعض المناطق الفلسطينية، مثل تكرار أن المسجد الأقصى في القدس هو ثاني الحرمين وثالث القبلتين.
وللمواقع الدينية والتاريخية أهمية سياحية، وتاليا اقتصادية. عدا عن ذلك، لا سبب لربط اقتصاد المنطقة ومستقبل أجيالها بخلاف عقاري على طراز القائم بين إسرائيل والفلسطينيين منذ قرن من الزمن.
النظرة الواقعية العملانية للحكومات ومصالح شعوبها تشي بأن خطة السلام الأقرب لتفكير بن سلمان هي خطة إنقاذية لرفع مستوى حياة الفلسطينيين وتحسين ظروف معيشتهم، بما في ذلك مداخيلهم وسهولة تنقلهم وفرص التعليم والاستشفاء والعمل لهم، وكل هذه امور لا تتطلب سيادة فلسطينية، بل تتطلب سلاما وتنسيقا مع الإسرائيليين.
وكما كتب الباحث الإسرائيلي ميخا غودمان، الذي يعتقد البعض أنه مقرب هذه الأيام من رئيس حكومة إسرائيل نفتالي بينيت، لن يكون مطلوبا من الإسرائيليين أو الفلسطينيين توقيع "وثيقة إنهاء صراع"، كما كان مطلوبا في الماضي، كشرط لرفع مستوى معيشة الفلسطينيين، بل أن العمل على ذلك يمكن أن يحصل بدون أي تسوية سياسية، ومع إبقاء كل من الطرفين على تحفظاته فيما خص السيادة والأرض.
قضت العولمة على الحدود والسيادة بمفهومها القديم، وصارت السيادة تتمحور حول حماية مصالح المواطنين كأفراد، أينما حلّوا، وتطوير قدراتهم كجزء من اقتصاد المعرفة العالمي. أما الأرض، فهي في الغالب في أيدي المقاولين، وعرضة للعرض والطلب بحسب السوق.
ولأن السعودية انتقلت من نموذجها القديم إلى آخر حديث، صار من شبه المستحيل تصنيف دولة حديثة، مثل إسرائيل، على أنها عدو، بل هناك إدراك أنه لا بد للدول المتشابهة في الحداثة، أي السعودية والإمارات وإسرائيل والبحرين، أن تكون متحالفة.
وكذلك الأمر بالنسبة لعلاقة السعودية مع إيران، وهي علاقة كانت ممكنة في إطار قبلي إسلامي قبل عقدين، لكن اليوم، تقدمت السعودية فيما تراجعت إيران، وصار الصراع بينهما هو صراع بين الحداثة السعودية والتخلف الإيراني.
أما الولايات المتحدة، فيبدو أنها ما زالت تعاني من الاهتزاز السياسي الذي تسببت به حرب العراق. على أن اضطراب اقتصاد الصين والأداء العسكري المزري لروسيا في أوكرانيا، أكدا أن أميركا ما تزال القوة العظمى الوحيدة في العالم، علميا واقتصاديا وعسكريا.
إهتزاز أميركا أسكت الأصوات التي كانت تدعم دورها الدولي، فخلت العاصمة الأميركية للأصوات الداعمة لتوريث دور أميركا في الشرق الأوسط والخليج لنظام إيران الإسلامي، وهو ما لن تسكت عليه إسرائيل والسعودية، ما دفع إلى توتر بين أميركا وحليفتيها الشرق أوسطيتين، وهو توتر تغذيه الأصوات الأميركية المستميتة على استبدال حلفاء أميركا الحاليين بإيران.
محمد بن سلمان يدرك أن العلاقات الخارجية مصالح، فإن كانت واشنطن ترى مصالحها في الإبتعاد عن السعودية ومصادقة إيران فـ"متروك (لبايدن) التفكير في مصالح أميركا". وإن كانت واشنطن لا ترى مصالحها في الشرق الأوسط، فهذه مشكلتها، لكن السعودية لن تنتظر عودة أميركا إلى الرؤية الواضحة، بل أن الرياض ستبحث عن مصالحها إن في أميركا، أو في إسرائيل، أو في أي مكان في العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق