حسين عبدالحسين
ممتازة هي السياسية الخارجية التي قدمها زعيم حزب الله، حسن نصرالله، في الخطابات الثلاثة التي أدلى بها قبل توصل لبنان لاتفاقية ترسيم حدود بحرية مع إسرائيل.
بلغة غير متخصصة عكست نباهة فطرية وضحالة فكرية، وصف نصرالله موقفه العملاني الواقعي المعاكس لعقيدته بقوله "نريد أن نأكل عنبا"، وهي عبارة عامية تعني أننا "نبحث عن مصالحنا". وعلى عكس غالبية اللبنانيين، خصوصا من القادة والسياسيين، قدم نصرالله فهما للمصالح الدولية أظهر أنه في قرارة نفسه يدرك أن لا أميركا ولا إيران ولا أوروبا ولا الصين يعنيها الانهيار اللبناني، ولن تأتي أيٌّ منها لنجدته وإخراجه من حفرته.
نصرالله حاول تصوير المفاوضات التي أمر بها مع إسرائيل على أنها عملية تقوم بها دولة لبنان، لا حزبه، مع أن العالم كله يعرف أن قصر الرئاسة اللبنانية في بعبدا، فيما رئيس لبنان الفعلي في حارة حريك، حيث مقر الأمانة العامة لـ "حزب الله".
كل كلمة وفاصلة في الاتفاقية مع إسرائيل كان مصدرها نصرالله. أما رئيس لبنان، ميشال عون، وباقي السياسيين، فناطقون باسم الحزب اللبناني، يرضون غرورهم بالأضواء والكاميرات، ولا يزعجهم كونهم مسؤولين شكليين .
نصرالله حاول تصوير إسرائيل وكأنها قدمت تنازلات للبنان بسبب رعبها من القوة العسكرية لحزبه. أما المفارقة، فتجلّت في مانشيت صحيفة مقرّبة من "حزب الله" جاء على الشكل التالي: "الاتفاق (مع إسرائيل) وإلا…" الحرب.
لم تتنبه ماكينة دعاية "حزب الله" أنها فجأة صارت تنادي بالمفاوضات والاتفاق مع إسرائيل، وهي فكرة تناهض الفكر الخشبي الثوري الإسلاموي الشيوعي للنظام الإيراني والميليشيات التابعة له مثل "حزب الله"، التي تعتبر أن السبيل الوحيد للتعامل مع إسرائيل هو العنف المسمى ”مقاومة“.
ثم في محاولة أخيرة لحفظ ماء الوجه، قال نصرالله، في خطابه الأخير، عشية الاعلان عن التوصل للاتفاقية بين لبنان وإسرائيل، أنه يعتقد أن حدود لبنان البحرية تصل غزة، لكن في الوقت الحالي، ولأن العالم يتضور من الجوع ومعه لبنان، فلا ضير من التوصل لترتيب تسمح بموجبه إسرائيل لشركة توتال الفرنسية بالتنقيب عن الغاز في حقل قانا، الواقع على الحدود البحرية المتنازع عليها بين البلدين.
كما لا ضير في أن تتولى الولايات المتحدة، صاحبة "سفارة عوكر" المهووسة في "تمويل عملاء لبنانيين" ضد الحزب "لتقويض المقاومة" حسب نصرالله، في إدارة عملية وساطة أفضت لمنح لبنان كل المساحة البحرية التي كان متنازعا عليها مع إسرائيل.
وبعد لقاءات عقدها مسؤولو وزارة الطاقة الاسرائيلية في باريس مع شركة توتال، أعلن الإسرائيليون أنهم سيتسلمون 17 في المئة من عائدات حقل قانا في حال تم اكتشاف وإنتاج وبيع الغاز.
لم يمانع "حزب الله" مبلغ النصف مليار دولار التي ستتسلمها إسرائيل من عائدات حقل قانا، لكنه طالب أن يتم تصوير هذه الأموال وكأنها تخرج من جيب توتال لا من حصة لبنان، وهذا تلاعب شكلي يهدف إلى نفي واقع الشراكة في حقل قانا بين لبنان "حزب الله" وإسرائيل.
في أدبيات جبهة الممانعة والمقاطعة ونظام إيران الإسلامي وحزب الله، الأموال التي سوف تتتسلمها إسرائيل هي أموال الفلسطينيين، وهو ما يعني أن "حزب الله" وافق على استيلاء إسرائيل على ما هو فلسطيني. لكن الضرورات تبيح المحظورات، ولا يمكن للجوع اللبناني أن ينتظر تحرير فلسطين، بل هو يملي مهادنة إسرائيل والتوصل لتفاهمات معها.
هذه السطور لا تهدف إلى تخوين "حزب الله" بسبب الشراكة التي توصل إليها مع إسرائيل حول حقل قانا، بل هي تهدف إلى إقناع نصرالله وجماعة الممانعة أن مساومتهم، التي أدت لتسوية مع إسرائيل تخدم مصلحة لبنان، وأنها السياسة الأفضل التي يجب على إيران الإسلامية وحزب الله والممانعة عموما تبنيها.
طبعا نحن نعرف أن نصرالله، كأحزاب الإسلام السياسي، لا يمانع بعض الخديعة خدمةً للهدف الأكبر، مثل عرض حماس لهدنة مع إسرائيل مقابل موافقة الإسرائيليين على إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة. ثم بعدما تتمكن حماس، تقضي على إسرائيل.
وهكذا ترى إيران أنه يمكن لوزير خارجيتها السابق مصافحة يد نظيره الأميركي جون كيري، مقابل حصول طهران على عائدات النفط. أميركا أوباما كانت تسعى لتكون الاتفاقية النووية مع إيران فاتحة خير لتطبيع العلاقات، فيما طهران كانت تراها نهاية المطاف، ووسيلة لحصول إيران على أموال أكثر للانغماس في حروب أوسع، ضد العرب أولا وبعدهم أميركا وإسرائيل.
وهكذا نصرالله، يريد تثبيت وضع لبنان الاقتصادي، لا لحبه باللبنانيين، بل لأن مغامرات المقاومة متعذرة فيما يقتات اللبنانيون من جبال القمامة المتراكمة عبر الأراضي اللبنانية. بكلام آخر، نصرالله وافق على تطبيع بحري لاستئناف حروبه البرية لاحقا، غالبا لقمع السوريين والعراقيين واليمنيين والإيرانيين الثائرين على نظامهم الإسلاموي الدموي.
لكننا سنحسن الظن بنصرالله ونعتبر أنه تعقّل وأدرك أن الناس "بدها تاكل عنب"، وهو ما يقتضي إنهاء الحروب بالكامل، لا مؤقتا فحسب وكأنه يسعى لإطعام اللبنانيين وتسمينهم تمهيدا لذبحهم في آتون الحروب الإيرانية المتوالية منذ 1979. أما تطبيع نصرالله البحري مع إسرائيل، فأظهر أن السلام في مصلحة اللبنانيين، وعموم العرب، أكثر بكثير من المقاومة وحروبها.
ثم أن القضية الفلسطينية بأكملها تشبه حقل قانا للغاز، ويمكن التوصل إلى شتى أنواع التفاهمات العربية مع إسرائيل التي تؤدي إلى تحسين معيشة الفلسطينيين واللبنانيين، مقابل تخليهم عن مطلب إقامة دولة فلسطينية بدلا من إسرائيل، هذا إن كان العرب "يريدون أن يأكلوا عنبا"، حسب تعبير نصرالله.
عندما يطالب أي لبناني بالتوصل لتفاهمات واتفاقيات مع إسرائيل، يثور محور الممانعة ويصف المطالبين بالسلام بـ "الانهزاميين" و"العملاء" و"المنحطين المرتزقة" التابعين للسفارات. أما أن يقول نصرالله نفسه: "نريد أن نأكل عنبا" ولتنتظر فلسطين وقضيتها، فالتطبيع الإلهي لا غبار عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق