حسين عبدالحسين
أنا عضو في الحزب الديمقراطي، أقترع لمرشحيه، أتبرع لهم، أساندهم. لا تستهويني عقيدة الحزب الجمهوري التي تلوم المحتاجين على حاجتهم وتتهمهم بالكسل، بل تعجبني السياسات التي تدعم التعليم المجاني، والاستشفاء المجاني، ومساعدة الأقل دخلا والمتقاعدين. كذلك أؤيد الحريات للجميع، ملحدين أو مثليين أو غيرهم، ممن يشبهوني أو لا يشبهوني في التفكير والمعتقد وأسلوب الحياة. هذه الأفكار تشكل أساس الحزب الديمقراطي، الذي يتظاهر بتفوقه أخلاقيا على نظيره الجمهوري. ثم تأتي السياسة الخارجية للديمقراطيين لتكشف أن سياسات الحزب الديمقراطي لا تعدو كونها شعارات شعبوية هدفها حصد الأصوات، وأن الديمقراطيين يغرقون في تناقضات لا قعر لها.
لنأخذ مثلا الحملة التي شنها على السعودية المشرعون الديمقراطيون من أمثال السناتور بيرني ساندرز، ورئيس حملته الرئاسية سابقا وعضو الكونغرس اليوم رو خانا، ومعهم باقة من المشرعين الديمقراطيين الذين يصفون أنفسهم بالتقدميين. ثارت ثائرة ساندرز وصحبه بعد قرار مجموعة أوبك تخفيض انتاجها بواقع مليوني برميل نفط يوميا، واتهم هؤلاء الديمقراطيون السعودية بمحاولة التأثير بنتائج الانتخابات النصفية المقررة في الثامن من الشهر المقبل، وذلك برفع سعر البنزين للمستهلكين الأميركيين لإحراج رئيس البلاد، الديمقراطي جو بايدن. كما اتهم ساندرز وخانا الرياض بقيامها بخطوة رفع أسعار النفط لمساعدة روسيا، التي تعاني من تهالك اقتصادها بسبب حربها على أوكرانيا، وقالا إن السعودية تنحاز لموسكو ضد كييف.
أفكار ساندرز تعج بالتناقضات وتنم عن انحياز مسبق ضد السعودية، فالسناتور الديمقراطي يعلن نفسه مدافعا عن البيئة، وتاليا عدوا للطاقة التقليدية ونصيرا للطاقة المتجددة. هذا يعني أن خفض السعودية وأوبك انتاجهما من النفط هو في مصلحة البيئة والكوكب، ويحد من الاحتباس الحراري. ثم أن ارتفاع سعر الطاقة يدفع السوق للبحث عن طاقة بديلة، مثل المتجددة التي يطالب بها ساندرز. لكن السناتور الديمقراطي وجماعته انقلبوا على كل مواقفهم البيئية في سبيل شن هجوم ضد السعودية.
في الوقت نفسه، لا يعترض ساندرز وخانا وصحبهما من الديمقراطيين على المسيرات المفخخة والصواريخ الباليستية الإيرانية الصنع التي تدفقت من طهران إلى موسكو وعاثت دمارا في عموم أوكرانيا، بل يطالبان برفع أميركا عقوباتها عن طهران، مع أو بدون اتفاقية نووية، لأن العقوبات "تؤذي الإيرانيين ولا تؤثر في النظام"، حسب الحكمة التي يقدمها هؤلاء الديمقراطيون. هكذا أطل ساندرز عبر شبكة "أم أس أن بي سي" على برنامج مهدي حسن، خرّيج الجزيرة القطرية، ليشن السناتور الأميركي حملة ضد السعودية ويتهمها بأن وضع المرأة فيها هو الأسوأ في العالم، وكأن النساء الإيرانيات المنتفضات ضد نظام المرشد الإيراني بسبب فرض الحجاب عليهن يعشن في السعودية، أو كأن السعودية، لا إيران، هي التي تزوّد روسيا بالدرونات لقتل الأوكرانيين.
وهكذا دواليك، يمضي الديمقراطيون أيامهم في تقديم سياسة خارجية، ليست غبية فحسب، وإنما خبيثة، وتناصر أعتى الديكتاتوريات المعادية لأميركا، في إيران وكوبا وفنزويلا، وتدعو لتخلي أميركا عن معظم حلفائها، إن الأوتوقراطيات منها كالسعودية أو الديموقراطيات مثل إسرائيل.
والسياسة الخارجية للبيت الأبيض، الذي يشغله الديمقراطيون، مزيج من الغباء والعقائدية. أولا، يعتقد الديمقراطيون أن الشر الأكبر الذي ظهر في تاريخ البشرية هو الرجل الأبيض الأوروبي الكولونيالي، الذي دمّر الشعوب واستولى على مقدرتها، وأن العالم سيكون مكانا سالما متناسقا إن هم نجحوا في عكس الكولونيالية وكل نتائجها. وهؤلاء الديمقراطيون هم في الغالب أنفسهم من البيض، ولكنهم يعتقدون أنهم يتفوقون على أقرانهم البيض الآخرين لأنهم جالوا دول العالم وتلقفوا ثقافاتها، فاتسعت آفاقهم ونبذوا تراثهم الأبيض.
في الواقع، اقتصرت الثقافة العالمية لهؤلاء البيض على معرفة سطحية بحضارات العالم وشؤونه، مثلا أتقنوا الفرنسية أو لغات أخرى، واعتبروا أنهم صاروا عارفين، لكنهم حتى أثناء إقامتهم خارج أميركا، عاشوا في قصور عاجية، فهم لم يعيشوا يوما في عوز أو فاقة، ولا في حرب، بل أقاموا حول العالم معززين مكرمين، يحملون جوازات أميركية تأخذهم حيثما يشاؤون، وينفقون أموالا من الثراء الأميركي اللامتناهي. حتى في السنوات التي قضوها في دول العالم، كانوا يتمتعون بحماية القوة الأميركية، ويعاملهم الناس كأميركيين.
لم يعش وزير الخارجية أنتوني بلينكن مواطنا تحت حكم طغاة مثل صدام حسين وحافظ وبشار الأسد وعلي خامنئي، ولا هو تجوّل يوما في مطارات العالم بجواز سفر لا قيمة له صادر عن هذه الأنظمة الفاشلة، ولم يعانِ مسؤول ملف إيران روبرت مالي من العيش في حرب أهلية، أو في خوف من اغتيالات الأنظمة التي يسعى لمصادقتها، إن إيران أو حماس أو غيرها. جلّ ما يردده بلينكن ومالي - وقبلهما جون كيري ووندي شيرمان - أن كل ما نحتاجه هو الاستماع الى أنظمة إيران وسوريا وغيرها لنعرف ما الذي تريده فنصل لتسوية معها. ألا يعرفون ما الذي يريده الأسد؟ يريد البقاء في السلطة ولو على جثث كل السوريين وأنقاض كل مدنهم وقراهم. ما الذي تريده إيران؟ بقاء حكم خامنئي وتوريثه لابنه وإعادة إقامة إمبراطورية متخيلة تكون ندا للغرب كما في ماضي الزمان.
العرب والإيرانيون يعرفون بالضبط ما الذي تريده أنظمة الطغيان. الأميركيون الديمقراطيون "التقدميون" وحدهم لا يعرفون ما الذي تريده هذه الأنظمة ويخالون أن مشكلة العالم هي أميركا، لا تخلّف العالم عن الالتحاق بمنظومة الليبرالية، ثم الديموقراطية، كما فعل الغرب، ويرون أن الحل يقضي بانكفاء العالم والغرب، ووضع إشارة X على جواز سفر الأميركيين المثليين، وكأن كل ما ينقص المثليين هو إعلان هويتهم الجنسية المرفوضة لدى معظم حكومات العالم غير الغربية، وهو ما قد يجعلهم أهدافا سهلة ويعرضهم لأعمال عنف.
هكذا هي السياسة الخارجية للحزب الديموقراطي، شعبوية ومزيج من الخبث والانحياز لإيران أو غيرها ضد حلفاء أميركا مع بعض الغباء الذي يعتقد أن مشكلة العالم هي سطوة الرجل الأبيض بدلا من أن يرى أن هذه السطوة هي الحاجز الأخير بين العالم القائم اليوم وعالم مغاير على شاكلة خامنئي ورئيس روسيا فلاديمير بوتين و"تصديهما للامبريالية" الذي حوّل سوريا واليمن وأوكرانيا إلى جبال من الركام، والذي يهدد بتحويل الكوكب بأكمله الى هذا الشكل البربري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق