حسين عبدالحسين
نشب نزاع حول ملكية عقارية بين أهالي بلدة عندقت الشمالية اللبنانية، ذات الغالبية المسيحية، وجيرانها الى الشرق عشيرة آل جعفر الشيعية. ويتمحور النزاع حول بدء شخص من آل جعفر ببناء بيت سكني له في أرض مشاع، لا ملكية فردية لها، لكنها تقع ضمن نطاق بلدية عندقت، وهو ما اعتبره أهالي عندقت تعديا على أملاكهم العامة.
وصدر بيان عن مخاتير عندقت جاء فيه التالي: ”بعد ان استنفدنا الوسائل القانونية والسلمية كافة مع بعض اهالي آل جعفر حول التعديات التي يقومون بها على مشاعات بلدتنا من تشييد أبنية، أو جرف اراضٍ، أو قطع حطب، متبعين سياسة القضم البطيء، وعدم احترامهم للقوى الأمنية ولحسن الجوار وتطبيق قرارات القضاء، ونسفهم المفاوضات في المطرانية (المارونية)، قامت مجموعة من شباب عندقت بقطع الطريق العام في بلدة القبيات-الجرد المؤدية الى بلدة الرويمة احتجاجا“.
ودعا البيان إلى تسوية ”قبل ان تصل الامور حد الاشتباك“، ولكنه حيا ”موقف شبابنا الشجاع وشهامتهم“ لقطعهم الطريق وتحدي آل جعفر، وشكر ”شباب القبيات“ المسيحيين لوقوفهم في صف شباب عندقت. وختم المخاتير بالقول: ”لن نفرط بأي شبر من حقوقنا لأن كرامتنا وأرضنا (هما) أغلى ما لدينا“.
والخلافات العقارية بين المذاهب اللبنانية ليس حديثا، فقبل عامين نشب نزاع مشابه في بلدة لاسا في منطقة جبيل.
والخلافات العقارية ليست عابرة للمذاهب فحسب، بل هي داخل كل واحد من المذاهب اللبنانية وغير اللبنانية في عموم المشرق، الإقطاعي تاريخيا، والذي تشكل الملكية الفردية العقارية ظاهرة حديثة نسبيا لا يتعدى عمرها القرن أو أكثر بقليل. وفي لبنان روايات كثيرة عن أخ وأخيه قتل واحدهما الآخر بعدما أغلق الأخ طريق المرور الى أرض أخيه. أما فرز الأراضي، فغالبا شفاهي ومبني على معالم غير ثابتة، مثل ”من شجرة الزيتون إلى الصخرة خلف بيت أبي فلان“.
كان الخليفة العربي أو السلطان العثماني يمنح الأراضي للمقربين منه وضباط جيشه، فيسمح هؤلاء للفلاحين في زراعة وحصاد الأرض مقابل ضرائب يدفعوها للإقطاعي، الذي يسدد بدوره جزء كبيرا منها للحاكم، الخليفة أو السلطان.
هكذا كانت عائلة سرجون المسيحية العربية التي فتحت أبواب دمشق أمام الغزو العربي، وهكذا كان البرامكة الذين عيّن هارون الرشيد جعفرا منهم واليا على الغرب والفضل واليا على الشرق. وهكذا كان الأمراء المعنيون والشهابيون في جبل لبنان. كل هؤلاء جباة ضرائب تحت اسم وزير أو أمير أو مقاطعجي. أما الملكية، فهي لله ومن بعده السلطان، بحسب هوية هذا السلطان.
لكن لكل مذهب إلهه وسلطانه. لهذا السبب، قام الغزاة غالبا بحفظ أراضي من غزوهم من المذاهب الأخرى. كما سمح الغازي للمُغزى بتدبير شؤونه الدينية والاجتماعية، مثل عقود القران والطلاق والولادة والوفاة، وهو ما أنجب في نهاية المطاف النظام العثماني المعروف بـ ”الملي“، والذي ورثته الدول التي أقامها الانتداب الفرنسي، والى حد أقل البريطاني.
لذا، عندما أقامت بريطانيا فلسطين بجمعها سنجق القدس، التابع لاسطنبول، مع سنجقي عكا ونابلس، التابعين لولاية بيروت، اقتصر الاقطاع الفلسطيني على عائلات ثلاثة أو أربعة في القدس، كالنشاشيبي وخالدي والحسيني، فيما كان اقطاع مساحات فلسطينية شاسعة يقيم في ولاية بيروت ومتصرفية جبل لبنان. وكانت هذه العائلات — مثل بسترس وسرسق وتويني المسيحية وجنبلاط الدرزية وسلام السنية — تقطع أراضيها لفلاحين يرتزقون منها ويسددون ضرائبها للاقطاعيين، الذين يسددونها بدورهم للباب العثماني العالي.
وعندما مضت الوكالة الصهيونية في أكبر عملية شراء عقارات في الشرق الأوسط، قامت بشراء عدد كبير في فلسطين من الاقطاع اللبناني، وبعض هذه الأراضي التي يملكها الصهاينة هي داخل حدود لبنان اليوم. مثلا، هضبة المطلة اشتراها الصهاينة من عائلة جنبلاط، ولكن عند ترسيم الحدود، بقيت أراض صهيونية على الجهة اللبنانية وهي اليوم جزء من بلدة كفركلا اللبنانية المواجهة للمطلة.
هكذا هي منطقة الشرق الأوسط، حديثة العهد بشؤون الحريات الفردية والملكيات الخاصة. الملكيات، حتى الخاصة منها، هي عادة في حماية القبائل أو العشائر، مثلما حصل في عندقت التي هبّ مسيحيو القبيات لنجدة أبناء مذهبهم في مواجهة المسلمين الشيعة، وكأننا نتحدث عن مواطني دولتين مختلفتين لا عن مواطني لبنان واحد.
على هذه الخلفية هو الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين. الفلسطينيون لم تكن بأيديهم السيادة في تاريخهم. مع نهاية القرن الماضي، تملّك فلسطينيون وتوارثوا أراضٍ في ما أصبح في ما بعد فلسطين البريطانية. حتى هذه الملكية لم تكن وطنية، بل تملّك المسلمون السنّة أراضي قراهم والبساتين المحيطة بها، وكان للمسيحيين قراهم، وكذلك كان للدروز قراهم، وكانوا يتنادون ضد واحدهم الآخر في حال تعدى أي منهم على أراض الآخر، بالضبط مثل عندقت وآل جعفر.
في هذا النظام القبلي ارتمت إسرائيل. طبعا قبيلة إسرائيل تفوقت على كل أقرانها، ماليا وتنظيميا وعسكريا، لذا، ابتاعت مساحات واسعة، وفرضت سطوتها على المشاعات. ثم عندما أعلن العالم اعترافه بدولة إسرائيل وانضمت الضفة للأردن وغزة لمصر، فرض الجانبين الاسرائيلي والعربي عملية تبادل سكاني على غرار ما فعلت تركيا واليونان. وتضمن التبادل تخلي إسرائيل عن أكثر الأراضي التي تقدسها، أي الضفة والقدس الشرقية، مقابل حصولها على دولة يهودية ذات سيادة. رفض العرب التسوية وخاضوا حروبا خسروها، ففرضت إسرائيل سيادتها على الضفة والقدس الشرقية، وهي سيادة لا يعترف بها العالم حتى اليوم.
موضوع السيادة يرتبط باعتراف دولي وينفصل عن من يملك الأراضي. لفلسطينيين أراض يملكوها في إسرائيل، ولإسرائيليين أراض يملكونها في الضفة والقدس الشرقية منذ زمن الدولة العثمانية.
النموذج الملي العثماني مازال سائدا اليوم في كل الشرق الأوسط وما زال يثير نزاعات لا تعترف بأي من الحدود القائمة. وحدها نزاعات الفلسطينيين والإسرائيليين تتصدر الإعلام العالمي، ولكنها فعليا مشاكل عقارية مألوفة في المنطقة، وحلّها يتطلب إما نشر ثقافة مواطنية غير قبلية تسمح بالاختلاط السكاني والعقاري، أو ترسيم حدود القبائل بين مسيحيي عندقت وشيعة آل جعفر كما بين مسلمي فلسطين ويهود إسرائيل، وكذلك في سوريا والعراق وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق