الاثنين، 18 سبتمبر 2023

الممر الهندي العربي الأوروبي… تاريخ عريق ومستقبل واعد

حسين عبدالحسين

المشهد


لم يكد الرئيس الأميركي جو بايدن يفرغ من شكر نظيره الاماراتي الشيخ محمد بن زايد حتى سارع رؤساء الدول الى التهليل والاستبشار خيرا بالممر البحري - البري، المزمع اقامته، والذي سيربط موانئ الهند بموانئ الإمارات، التي سترتبط بدورها بشبكة سكك حديدية تمر عبر المملكة العربية السعودية، فالأردن وإسرائيل، حتى تصل مرفأ حيفا، حيث يتم تحميل الحمولة بحرا الى أوروبا، والعكس.


ومن شأن ممر من هذا النوع أن يحمل البضائع، والناس، والاتصالات، وحتى الأفكار، وهو ما يؤدي لنمو اقتصادي، وتعاون دولي، وازدهار


القيمون على الممر لم يسعوا الى ربطه بالتاريخ، على غرار ما فعلت الصين، التي أطلقت على مبادرتها اسمالطريق والحزام، تيمنا بـطريق الحرير، الذي كان يربط آسيا الوسطى بتدمر السورية، مرورا بطهران وبغداد. لكن الممر الهندي العربي الأوروبي أكثر عراقة منطريق الحرير، فهو الذي ساهم في صناعة الحضارة العربية وانتشارها من جنوب شرق آسيا الى الأندلس


كانت شبه الجزيرة العربية والعراق والمشرق كتلة برّية تفصل بين عالم البحر الأبيض والمتوسط، غربا، وبحر العرب وخليجه وتاليا الهند، شرقا، وكان لا بد من تسيير قوافل برية تجارية في هذه الأراضي الشحيحة المياه، والعصية على غير أهلها، تحت طائلة إضلال الطريق والعطش والهلاك. وعندما حاول الرومان الاستيلاء على مملكة الأنباط العرب بشن حملة عسكرية ضدهم، لجأ الأنباط الى صحارى عصت على الرومان، الذين تراجعوا وتركوا العرب يتمتعون باستقلالهم.


على أن الطريق العربي التاريخي لم يكن مطابقا للذي تم الاتفاق على اقامته في قمة العشرين، التي انعقدت في الهند الأسبوع الماضي. سبب عدم التطابق هو سيطرة إيران على أجزاء واسعة من الهلال الخصيب، الذي كان العصب البري الأساس لهذه الرحلة ماضيا. كانت السفن تنطلق من الهند، فتعبر بحر العرب وخليجه، وتتوقف مرارا في محطات خليجية متعددة، مثل الجميرة الاماراتية، التي أقام فيها الرومان حامية عسكرية لحماية القوافل البحرية، وما تزال بعض أثارها قائمة هناك


ومن المحطات أيضا جزيرة خرك، التي تقع تحت السيادة الإيرانية اليوم، وشبه جزيرة قطر، وجزيرتي البحرين وفيلكا الكويتية، الى أن ترسو السفن في البصرة، حيث يتم انزال الحمولة وتحميلها على ظهر الجمال التي تسير قرب مجرى نهر الفرات، ثم تتجه غربا من عانة الى تدمر، ومنها تنقسم الى مجموعتين: واحدة تسير غربا الى حمص، ومن هناك تسير شمالا مع مجرى نهر العاصي نحو مرفأ انطاكية، فيتم تحميل الحمولة مجددا على السفن التي تتجه الى القسطنطينية وباقي مدن أوروبا، وثانية تتابع السير جنوبا الى بصرى، فعمّان، والقدس، في طريقها الى مرفأ غزة النبطي، حيث يتم تحميل بعض السفن، فيما تواصل باقي الحمولة السير جنوبا فتعبر سيناء باتجاه البلاد المصرية


وتحميل هذه الكميات الهائلة من التجارة الدولية العابرة للقارات كان يحتاج لجمال كثيرة، وهو ما دفع معظم القبائل والعشائر العربية الى المشاركة في تشكيل القوافل. هذه القوافل كانت تضبط حركة سيرها موسميا، فتلاحق الكلأ لترعى في الشام ربيعا وفي البصرة خريفا، وهذا التوقيت كان يتناسب تماما مع حركة الرياح الموسمية فوق المحيط الهادئ، التي تندفع نصف السنة شرقا ونصفه الآخر غربا، وهو ما يسرّع من مسير السفن الشراعية العابرة للمحيط.


في زمننا هذا، لا حاجة للجمال، ولا لاتقان فن عبور الصحراء، ولا لمشاركة القبائل والعشائر، خصوصا التي كانت تمر القوافل في ديارها حتى تأمن هذه القوافل شرّ أصحاب الأرض بمشاركتهم نسبة من غلّتها. في زمننا هذا، قطار سريع واحد عابر للأراضي الاماراتية والسعودية والأردنية والإسرائيلية يصل بحر العرب بالبحر الأبيض المتوسط.


ومنذ اكتشف البحارة العرب سرّ الابحار مع الرياح الموسمية فوق المحيط الهادئ قبل ألفيتين، برز طريق دولي منافس للخليج، وهو طريق كان يمر من المتوسط عبر فم نهر النيل، ومنه غبر قناة الفراعنة باتجاه البحر الأحمر، ومنها جنوبا نحو المحيط الهادئ. هذه المنافسة رسمت معظم السياسات القديمة، فالعباسيين رعوا طريق الخليج والعراق وأغلقوا القناة المصرية، فيما رعى الفاطميون الطريق المصرية وحاولوا احتلال المشرق لاغلاق منافذ طريق الخليج والعراق.


ومع شق قناة السويس، صارت الممر الوحيد للتجارة القارية بين الشرق والغرب، وسيطرت عليها بريطانيا، وهو ما أفادها اقتصاديا ودفع منافستها المانيا الى الاتفاق مع السلطنة العثمانية على بناء خط قطار برلين بغداد، الذي كان من المفترض أن يصل مرفأ الكويت كمنفذه على الخليج. لكن بريطانيا تنبهت للخطر الألماني الذي كان يتهدد بضائعها، فاتفقت مع قبائل الكويت على اعلان الاستقلال عن ولاية البصرة مقابل منحهم الحماية البريطانية، وهكذا كان. ويعتقد معلمنا الراحل المؤرخ كمال الصليبي أن احباط بريطانيا خط برلين بغداد، الذي كان سيقصّر طريق البضائع بين الهند وأوروبا بألف وستمائة كيلومترا، ساهم في إشعال الحرب العالمية الأولى.


هذه المرة، الطريق من الهند عبر جزيرة العرب فأوروبا أقصر من خط برلين بغداد، وأقصر كذلك من طريق الحرير الصيني، ومع بعض الحظ، يمكن أن يتحول هذا الممر الى أبرز رابط تجاري واقتصادي وحضاري بين شطري العالم، وأن يقسم منطقة الشرق الأوسط الى اثنتين: واحدة منخرطة في الاقتصاد العالمي، وعالم المعرفة، ويعيش سكانها في بحبوحة، وثانية خارجة عن النظام العالمي وقوانينه، وترعى الارهاب والفوضى، وتعتاش على الابتزاز والتجارة غير الشرعية، من مخدرات وسلاح وغيرها، ويستميت سكانها على الهجرة منها الى المجموعة المزدهرة.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008