حسين عبدالحسين
أبدى نفر من مؤيدي "حزب الله" اللبناني انزعاجهم من مواقفي المعارضة لوجود نظام الولي الفقيه والحكومة الإسلامية، ونظام الميليشيات الولائية التابعة للولي الفقيه، أي علي خامنئي، في عموم منطقة الشرق الأوسط، فما كان من بعضهم إلا أن طالبني بتغيير اسمي الشيعي، لأنه لا يتناسب ومواقفي، وهو ما يعكس حجم المأزق الذي تعيشه المنطقة بسبب الفكر الظلامي الذي نشره النظام الإيراني على مدى أربعة عقود، وهو فكر يخال أن كلمة شيعة تعني مجموعة بشرية يتطابق أفرادها في الرأي والمأكل والملبس والتعبد، وفي الخيارات الدينية والدنيوية، وللشيعي صورة واحدة يرسمها الولي الفقيه، وكل من يخرج عنها ليس شيعيا، وعليه تغيير اسمه.
وهنا استميح القراء عذرا لأني سأخلع ثوب كاتب السياسة والتاريخ، وأرتدي ثوبا شخصيا لطالما تفاديته لاعتقادي أن الهوية الدينية موضوع شخصي بحت لا مكان لها في النقاشات العامة.
أجدادي لوالدي سادة من سبط الرسول، ينحدرون من السيد محمد بن السيد أحمد الحسيني، المعروف بـ"المنشئ البغدادي"، الذي اتقن العربية والفارسية والإنكليزية، وعمل حتى عام 1820 ميلادية موظفا في القنصلية البريطانية في بغداد، وكان سكنه في الكاظمية في جوار ضريح الإمام الشيعي السابع موسى الكاظم، المتوفي في 799 ميلادية. وبعد تقاعده، قام الحسيني برحلة إلى شمال العراق، وألف كتابا بعنوان "رحلة إلى ديار الكرد"، وكان داره دار علم، وهو تقليد توارثته العائلة أبا عن جد، وكان من أشهر من أنجبته المؤرخ العراقي ومؤلف موسوعة "العرب قبل الإسلام" جواد علي. أما جدي، فعمل تاجرا وأصاب رزقا، وكان يعتز بعروبته، فاستبدل طربوشه العثماني بالسيدارة الفيصلية، وربطته بالأسرة الهاشمية صداقة، فكان يهدي الملك سنويا دراجة هوائية تحمل شعار الدولة، في احتفال لاتزال صوره متداولة على الإنترنت.
أجدادي لوالدتي كذلك سادة من سبط الرسول، ينتسبون إلى إبراهيم المرتضى ابن الكاظم. وتظهر شجرة نسب العائلة أنهم تعرضوا لاضطهاد في زمن البرامكة، فرحلوا إلى المشرق، واستوطنوا دمشق، ومنها بعلبك، وهم المتولّون على مقامات السيدة زينب في دمشق والسيدة خولة في بعلبك. ومثل أجدادي العراقيين، تباهى أجدادي اللبنانيون بتوارث العلم في ديارهم، وكان جد أمي قاضي شرع معين بفرمان من الباب العالي، وأورث القضاء لولده، جدي، الذي تخرج بشهادة دكتوراه في الحقوق من سويسرا عام 1923، وتبوأ أرفع المناصب القضائية في دولة لبنان.
هؤلاء هم أجدادي الشيعة. لم يكونوا من عائلات الإقطاع اللبناني، أي الأسعد وعسيران وحمادة، ولم يكونوا من وجهاء العراق، بل كانوا أهل علم وعمل، وكانوا يفخرون بشيعتهم، ولكن يبقونها في منازلهم وحسينياتهم، فلا ضير أن يكون ابن شريف مكة، أي الملك فيصل، سنيا، فالدين لله والوطن للجميع.
لم يكن كل الشيعة "ماسحي أحذية" ولا "عمال مرفأ"، مع كل الاحترام لهذه المهن الشريفة، بل كان الشيعة مثل باقي الملل، فيهم الإقطاع، وفيهم المتعلمين، وفيهم الأقل علما والأقل دخلا، ولم ينتظر أجدادي الشيعة "الحكومة الإسلامية" في إيران ولا "الولي الفقيه"، ليرفع عنهم بعض مظالمهم، بل هم شاركوا في تأسيس "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى"، الذي انتزع اعتراف دولة لبنان بالطائفة الشيعية كواحدة من الطوائف، بعدما كان التمثيل الإسلامي حكرا على مفتي الجمهورية السني.
في فراش أجدادي وأخوالي نام موسى الصدر، الذي قاد حركة انخراط الشيعة في لبنان — وطنا نهائيا — وانتزع الاعتراف بالطائفة لبنانيا. ولم تبخل جدتيَّ، ولا عماتي أو خالاتي، في تزكية أموال العائلة، والتبرع لـ"الست رباب"، أي السيدة رباب الصدر، التي تدير مشاريع خيرية كدور أيتام وملاجئ فقراء.
نحن شيعة قبل أن تصبح إيران شيعية في القرن السابع عشر، في محاولة حكام إيران الصفويين الصوفيين انتزاع شرعية إسلامية تنافس احتكار سلاطين إسطنبول الشرعية الإسلامية السنية. أجدادنا الشيعة كانوا في معركة كربلاء، ومقابرهم في النجف، وبيوتهم في الكاظم، وفي كرخ بغداد، وفي ريش بعلبك الغربي، وفي بيروت.
لم ننتظر روح الله الخميني، وثورته التي صممتها أميركا وفرنسا لمواجهة المد الشيوعي المحتمل في حال انهيار الشاه، حتى نصبح شيعة. ولم نحتج لميليشيات للتعايش والتحالف مع عراقيين من أمثالنا، كالأسرة الهاشمية، أو مع لبنانيين من أمثالنا، مثل "النمر" كميل شمعون، رئيس لبنان الراحل.
نحن شيعة قبل الصواريخ، وسنبقى شيعة بعد زوالها. ونحن شيعة قبل ملك العراق وصدام وميليشيات اليوم، وبعدهم. ونحن شيعة قبل الولي الفقيه، وسنبقى شيعة بعده. لكن شيعيتنا هي في تاريخنا وتراثنا، وفي بيوتنا ومعشرنا الطيب، واندماجنا في البيئات التي نعيش فيها، لا نرفع أصبعنا عليهم ولا نهددهم، ولا نفرض عليهم ما نقبله وما لا نقبله من تدويل وغير تدويل، بل نشاورهم، ويشاوروننا كمواطنين متساوين في الرأي والقرار.
نحن من نسيج المجتمعات التي نختارها، وهو ما يربك جماعة الولي الفقيه —في العراق ولبنان— كلما رأوا صفحتي وفيها اسمي وبجانبه العلم الأميركي. أميركا وطن المهاجرين، وأنا منهم. لا شيعتي تتعارض مع أميركيتي، ولا العكس.
يوم انهارت الملكية الهاشمية في العراق وانفجرت الدموية لدى عراقيين ممن قطّعوا جثة رئيس الحكومة نوري السعيد وحملوها على عصي وطافوا بها شوارع بغداد، شاهد والدي إصبع السعيد مرفوعا على عصا، وأحرقت العائلة صورها مع الملك خوفا من الانتقام. منذ ذلك اليوم، تتمسك العائلة برأي أن الشأن العام لا يعنينا، وأنه يمكننا أن نعيش بعيدين عن الأحداث والاضطرابات، وهو رأي خاطئ، لأننا تفادينا الكوارث في العراق ولبنان، ولكن الكوارث لم تتفادنا يوما.
أما عائلتي اللبنانية، فهي اعتكفت عن أي نشاط سياسي مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية وصعود الأحزاب المسلحة، واستخدمت كلمة "حزبي" للدلالة على "الزعرنة" و"البلطجة"، وأصر أهلنا على العلم كسلاح وحيد، وعلى المنطق والضمير. وفي سني تقاعده، أرسل جدي للخميني رسالة دعاه فيها للعدول عن مبدأ "ولاية الفقيه" و"الحكومة الإسلامية"، وناداه بصيغة "يا ابن عمي"، نظرا لنسب كل منهما الذي يجعلهما من السادة، وقدم له تفنيدا طويلا، كبروفسور في القانون، حول التضارب بين حكم الشعب وسيادة القانون، وحكم الخميني الثيوقراطي بنص إلهي، ونصحه بالعودة إلى أصول المذهب القاضية بتفادي السياسة حتى ظهور القائم بالزمان، الحجة المنتظر، محمد المهدي.
لكن منذ الخميني وثورته الإسلامية وحكومته، لم يعد للعلم ولا للمنطق صوت بين الشيعة، بل صار علمهم فيه كلمة الله تحت بندقية كلاشنكوف، ولا صوت يعلو على صوت البنادق والصواريخ.
نحن شيعة منذ أن قام المذهب، وهم — الولي الفقيه وميليشياته — مرتزقة، يعتاشون على عائدات النفط الإيراني، ويثملون من فرط قوتهم التي يسلطونها على أهلهم في إيران والعراق ولبنان، تنكيلا وقمعا واغتيالا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق