الثلاثاء، 30 مارس 2021

نهاية القضية الفلسطينية وبداية قضية الفلسطينيين

حسين عبدالحسين

"انتهى رسميا الصراع العربي الإسرائيلي"، يقول الأكاديميان الفلسطينيان حسين آغا وأحمد خالدي في مقال نشرته "فورين أفيرز"، ويكتبان: "حان وقت بداية جديدة". الكاتبان، هما من مخضرمي مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، واستعرضا في المقال فشل معظم التصورات المطروحة للتوصل إلى تسوية، واقترحا سيادة فلسطينية "مخففة" على أراضي 1967. والسيادة المخففة تعني إناطة أمن الحدود والمعابر الحدودية بفريق ثلاثي فلسطيني أردني إسرائيلي في الضفة الغربية، وفلسطيني مصري إسرائيل في قطاع غزة، مع حكم فلسطيني ذاتي داخل هذه الأراضي.

ويمكن القول أن الصراع ليس وحده الذي انتهى، بل "القضية الفلسطينية" نفسها انتهت بالشكل الذي تم تصوره، أولا بتحرير كل الأرض عن طريق الكفاح المسلح، وثانيا بإقامة دولة مستقلة على أراضي 1967 عن طريق الديبلوماسية. 

في زمن العولمة، انتهت سيادة الدول بالشكل الذي تصورته الشعوب والحكومات يوما، أي أن تكون كل دولة سيدة مستقلة ومكتفية ذاتيا، اقتصاديا وعسكريا. العالم اليوم صار قرية صغيرة، ومن لا يلتزم من الدول بقوانين الأمن العابرة للحدود، يتم عزلها، على غرار إيران وكوبا وكوريا الشمالية، فتغرق في فقر مدقع، وجوع، وجريمة، وبؤس.

أما الدول التي تتمتع شعوبها برفاه، فهي التي تخلت عن عقدة السيادة وانهمكت في رفع مستوى معيشة مواطنيها، مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، وكلها تستضيف قواعد عسكرية أميركية. ويمكن الإشارة كذلك إلى الدول التي لا تتمتع بمساحات، ومع ذلك تتفوق اقتصاديا، مثل سنغافورة، التي تبلغ مساحتها 700 كلم مربع فقط، ويسكنها ستة ملايين نسمة، ويبلغ حجم اقتصادها حجم اقتصاد إيران، ومدخول الفرد فيها هو من الأعلى في العالم.

وللمقارنة، تبلغ مساحة الضفة والقطاع أكثر من 6000 كلم مربع، مع إجمالي سكان يقدّر بستة ملايين واقتصاد هو من الأسواء في العالم، ومدخول للفرد من الأدنى. حتى لو حسبنا أن إسرائيل اقتطعت نصف مساحة هذه الأراضي الفلسطينية وضمتها، تبقى سنغافورة أصغر بكثير من أراضي الفلسطينيين وأكثر ثراء بكثير منهم.

لم تعد السيادة والأرض من عوامل ازدهار الشعوب، بل صارت اقتصادات المعرفة، والحوكمة الرشيدة، ونظام المؤسسات، وحكم القانون، هي معالم الشعوب الأكثر رخاء. هذا لبنان يتمتع بسيادة على 10452 كيلومترا وصار من أفقر دول العالم، ومثله سوريا، الدول السيدة المستقلة الغارقة في فقر مدقع وبؤس.

وإذا تغيرت عوامل الرخاء للشعوب، لما لا تتغير مواقف الفلسطينيين؟ أليس الهدف هو العيش الكريم؟ أم أن الهدف هو العيش أسرى للتاريخ، والإصرار على الانتقام، وتحويل الدولة إلى هوية، بدلا من أن تكون الدولة أداة لخدمة مصالح مواطنيها ورفاههم.

في الماضي، اقتصرت حلول الفلسطينيين لقضيتهم على شكلين. الأول هو حل الدولتين، ويتضمن قيام دولة فلسطين إلى جانب إسرائيل، والثاني هو حل الدولة الواحدة، إسلامية كما تتصورها حماس، وديموقراطية علمانية كما يتصورها الراحل إداور سعيد وغالبية النخبة الفلسطينية في الغرب. في الشكلين، يطالب هؤلاء الفلسطينيون بعودة لاجئي 1948 إلى إسرائيل، وهو ما يقوّض الغالبية اليهودية فيها. ويلقون باللائمة لمصائب الفلسطينيين على الاحتلال، بل على وجود دولة إسرائيل برمتها.

لكن هذه التصورات الفلسطينية صارت شعارات فارغة عفا عليها الزمن، وتجاوزتها غالبية الفلسطينيين، اذ أظهر استطلاع للرأي أجراه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" أن واحدا فقط من كل أربعة فلسطينيين يرون أن "المشكلة الأساسية التي تواجه الفلسطينيين اليوم" هي "استمرار الاحتلال" الإسرائيلي، فيما قال 31 في المئة فقط أن أولويتهم هي عودة الفلسطينيين إلى إسرائيل، في وقت اعتبر 30 في المئة من المستفتين أن المشكلة هي البطالة، وقال 25 في المئة أنها تفشي الفساد في المؤسسات العامة، أي أن غالبية 55 في المئة من الفلسطينيين ترى أن مشكلتها الأساسية هي إدارية اقتصادية داخلية، لا قومية أو عسكرية مع إسرائيل.

عن الربيع العربي، رأى ثلث الفلسطينيين أن المتظاهرين العرب كانوا يطالبون بالحرية من الاستبداد وقمع الأنظمة، وقال 28 في المئة أن العرب ثاروا للخروج من حالة الفقر، واعتبر 20 في المئة من الفلسطينيين أن العرب ثاروا على فساد حكوماتهم. فقط خمسة في المئة من الفلسطينيين قالوا إن الربيع العربي كان للتعبير عن معارضة السياسات العربية الموالية للغرب. 

أين هي الجماهير الثائرة من المحيط إلى الخليج ضد الاستعمار، والمطالبة بإنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل؟ هي جماهير تنتمي لزمن رحل بدون أن يأخذ معه شعاراته، التي تحولت سياسات ترددها بعض الأطراف الفلسطينية بشكل ببغائي، بدون أن تتنبه أن رأي ناسها صار في مكان آخر.

كما باقي الشعوب، لم تعد قضية السيادة ولا الأرض هي شغل الفلسطينيين الشاغل، بل صار مستوى المعيشة والوضع الاقتصادي هما الأساس. داخل إسرائيل، لطالما فازت في انتخابات الكنيست كتلة عربية تعارض وجود إسرائيل نفسها، وتتبنى مواقف مبدئية مشابهة لمواقف "محور الممانعة" المتطرف.

لكن لعرب إسرائيل مصالح تحتاج من يرعاها ويطالب بها داخل دولة إسرائيل. ويعاني عرب إسرائيل من ارتفاع معدلات الفقر في مناطقهم، وانتشار الجريمة المنظمة، وتدهور حالة البنية التحتية. هكذا، انشقت الكتلة العربية في الكنيست، وأعضاؤها 15، وأعلن أربعة منهم استعدادهم للدخول في أي تحالف حكومي يؤمن لهم مصالح عرب إسرائيل. ثم جاءت الانتخابات، وترشحت قائمتان عربيتان: "المشتركة" وهي معارضة لاندماج العرب في إسرائيل، و"الموحدة" المطالبة به، فحافظ مؤيدو الاندماج على مقاعدهم الأربعة في الكنيست، فيما خسر معارضو الاندماج من عرب إسرائيل خمسة مقاعد واقتصرت كتلتهم على ستة فقط. العبرة من الانتخابات الإسرائيلية، التي جرت الأسبوع الماضي، أن غالبية عرب إسرائيل تسعى للاندماج بدلا من "الصمود". 

الدنيا تتغير والوعي ينتشر بين الفلسطينيين الذين لم يعودوا يستميتون على سيادة على شاكلة السلطة الفلسطينية، أو حماس، أو نظام بشار الأسد في سوريا، أو "الدولة المقاومة" في لبنان. صار الفلسطينيون يعون أن هدف السياسة هو تأمين مصالح الناس، وأن السيادة والشعارات القومية لا تطعم ولا تسمن.

أما القادة من الفلسطينيين، ومعهم بعض النخب في الخارج، فمنفصلين عن الواقع وعن طموحات الفلسطينيين. لكن أصواتا فلسطينية تعلو، حول العالم، وداخل إسرائيل، وفي الأراضي الفلسطينية، وتطالب بغير ما هو متعارف عليه. إنها نهاية القضية الفلسطينية وبداية قضية الفلسطينيين.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008