حسين عبدالحسين
خبران تصدرا الإعلام الفلسطيني والإسرائيلي الأسبوع الماضي. الأول، شغب ومواجهات في الشارع بين عرب ويهود في إسرائيل على خلفية نزاع عقاري وهتافات عربية "حيفا ليست للبيع"، والثاني، جدال أثارته محاولة "الصندوق القومي اليهودي" رفع حظر ذاتي، والسماح لنفسه بشراء أراض محيطة بمستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية.
في الخبر الأول، يجهد متابع التقارير الإعلامية لمعرفة كيف بدأت المشكلة. الإعلام العربي، حتى الناطق منه بالإنكليزية، يصور الموضوع امتداد لعملية تهجير الفلسطينيين التي بدأت في 1948. في الإعلام الإسرائيلي، يبدو الصراع طبقيا، في ظل محاولة شركات استثمار إسرائيلية "تحسين" الأحياء بإخلائها من ساكنيها المستأجرين، وبيع شققهم، ليصار إما ترميمها أو هدمها وبناء جديدة بدلا منها. في الحالتين، تتحول الشقق القديمة إلى جديدة فاخرة، وتصبح أسعارها خارج قدرة سكانها على شرائها، ما يجبرهم على الرحيل عن أحيائهم إلى أحياء أقل تكلفة.
وعملية "التحسين" هذه منتشرة في معظم مدن العالم، وتنقسم حولها الآراء بين مؤيد لتحويل أحياء فقيرة -غالبا ما تعاني من ارتفاع في معدلات الجريمة - إلى أحياء فاخرة، وبين معارض يرى أن هذا التحويل يتجاهل مشكلة الفقر، ويطرد الناس من أحياء ولدوا ونشأوا وعاشوا حياتهم فيها.
أما كيف بدأت المشكلة، فعلى الشكل التالي: يورد موقع "ميدل إيست آي" أنه بعد سنتين على مغادرة مئات آلاف الفلسطينيين دولة إسرائيل على أثر اعلانها في 1948، أقرّت الدولة العبرية قانون تملكت بموجبه أملاك الغائبين، بما في ذلك ثلث أملاك فلسطينيي يافا، الذين حافظوا على ملكية ثلثي العقارات. وضعت الدولة هذه الأملاك في عهدة شركة عميرام، التي قامت بتأجيرها كمساكن للفلسطينيين. ثم شرّعت إسرائيل، كعدد من دول العالم، قوانين "حماية المستأجر"، وهي قوانين تمنع المالك رفع الإيجار أو إخلاء المستأجرين بدون رضى الطرفين.
ثم بعد انتشار مبادئ النيوليبرالية الاقتصادية وتلاشي قوانين "حماية المستأجر"، في نيويورك كما في بيروت، يبدو أن هذه القوانين تلاشت أيضا في إسرائيل، وهو ما دفع شركة عميرام إلى تخيير 40 عائلة، من ساكني شققها من عرب يافا، التالي: أما يشترون شققهم أو يغادرونها. ولأن الشقق في أحياء يمكن إنشاء بنايات فاخرة مطلة على البحر بدلا منها، حددت عميرام سعر الشقة بنصف مليون دولار. ويشكو المستأجرون أن سعر الشقة خارج عن قدرتهم، ويشيرون إلى أن يهود إسرائيليين - يسمونهم مستوطنين - ينوون شراء هذه الشقق بدلا منهم.
وقام الحاخام ألياهو مالي، الذي يدير مدرسة شيرات موشيه الدينية في يافا، بزيارة رافقه فيها الحاخام موشيه شاندوفيتز، إلى شقق شركة عميرام، فما كان من السكان إلا أن تظاهروا ضد زيارتهما، قبل أن يقوم شبان بالتعرض للحاخامين بالضرب. وفي اليوم التالي، تظاهر مناصرو مالي في أحياء العرب، وتظاهر العرب ضدهم، وانتشرت الشرطة بين الطرفين، وساد الهرج والمرج والتضارب، وتكررت المواجهات على مدى ليال.
من وجهة النظر العربية، تبدو خطوة عميرام وزيارة مالي استيطانا بالقوة وتهويدا، لكن حقيقة الأمر هو أن ملكية الشقق مفتوحة للعرب، والمطلوب مبلغ 20 مليون دولار تشتري كل الشقق التي تعرضها عميرام للبيع، فتبقى العائلات العربية في شققها، بل تتحول العائلات من مستأجرة إلى مالكة.
ومثل يافا، كذلك في الأراضي المجاورة للمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، حيث استملاك يهود للأراضي لا بتم عنوة، بل أن مالكين فلسطينيين هم من يقومون ببيعها لـ"الصندوق القومي اليهودي"، ولا إكراه في عملية البيع والشراء هذه.
عام 1964، أقامت "منظمة التحرير" الفلسطينية "الصندوق القومي الفلسطيني"، الذي تحول إلى "وزارة المالية" للمنظمة على مدى عقود، وكان يجمع أمواله من تبرعات الأثرياء الفلسطينيين والحكومات العربية، ويفرض ضريبة دخل ستة في المئة على الفلسطينيين في أنحاء العالم. وكان اسمها "ضريبة تحرير فلسطين".
لكن ضريبة "تحرير فلسطين"، كسائر عملية "تحرير فلسطين"، غرقت في فساد مسؤوليها، الذي انهمكوا في إقامة "مشاريع استثمارية"، غالبا تحت أسمائهم وأسماء أفراد عائلاتهم، فأثروا أيّما ثراء. ثم مضى رئيسا المنظمة، الراحل ياسر عرفات وخلفه الحالي محمود عبّاس، يستخدمان الصندوق لتمويل شبكة ريعية موالية لهما، فيمدّان الفصائل التي تواليهما بالمال، ويحرمانه عن معارضيهما. وفي زمن عبّاس، تحول الصندوق إلى "مغارة علي بابا والأربعين حرامي"، حتى أن أحد مدراءه، الذين اتهمتهم القيادة الفلسطينية بالفساد، اقترح تقديم 45 عقارا كان يملكها في العاصمة الأردنية مقابل إسقاط التهم ضده.
هكذا، يملك مدير "الصندوق القومي الفلسطيني" 45 عقارا، ويملك بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية و"منظمة التحرير" مئات ملايين الدولارات، ولا يتبرع أحد منهم بشراء عقارات يافا من شركة عميرام الإسرائيلية، بمبلغ 20 مليون دولار فقط، حتى يسمح لعرب يافا بشرائها بأسعار مخفّضة وعلى دفعات شهرية.
بدلا من شراء الشقق التي تعرضها عليهم إسرائيل، يتظاهر الفلسطينيون ويشتمون العالم كله على تآمره ضدهم وضد قضيتهم، كما بدا في الفيديو المسرّب لاجتماع منظمة التحرير، والذي يظهر الرئيس الفلسطيني محمود عباس يشتم الصين وروسيا وأميركا وكل العرب.
ومثل في حالة يافا، كان يمكن لـ"الصندوق القومي الفلسطيني"، أو أي صندوق يمكن أن يقيمه أي عدد من المتمولين الفلسطينيين، شراء أي أملاك قد يرغب في بيعها الفلسطينيون، إن في الضفة أو داخل إسرائيل. لكن فيما يموّل اليهود صندوقهم من جيوبهم، ينهب الفلسطينيون صندوقهم لملء جيوبهم.
والصراع العقاري ليس محصورا بإسرائيل والفلسطينيين. في لبنان، جنّ جنون زعيم الدروز وليد جنبلاط يوم رأى أن شيعة لبنانيين، غالبا من "حزب الله"، يقومون بشراء عقارات يملكها دروز في جبل لبنان الجنوبي، معقل دروز لبنان. فتح جنبلاط خزائنه وراح يشتري أي أرض يرغب مالكوها الدروز في بيعها. ومثل الدروز، اشتبكت الكنيسة المارونية مع شيعة لبنانيين حول ملكية أراض في مناطق متجاورة بين الطائفتين.
في لبنان، تصرّ كل طائفة على الحفاظ على "نقاء" ملكية وسكان أحيائها وقراها وبلداتها، حتى أن بلدية الحدث — ضاحية بيروت ذات الغالبية المسيحية — أصدرت مرسوما يحظّر تأجير المسلمين.
هذا هو الشرق الأوسط: تعايش بلا اختلاط ولا تزاوج. إسرائيل لا بد لها الا أن تلعب وفق قوانين المنطقة وأعرافها، حتى لو تقدمت بديمقراطيتها على دول المنطقة بما لا يقاس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق