حسين عبدالحسين
لم يلق تعثر انتشار الديمقراطية في دنيا العرب وإيران اهتماما يذكر، ومرّ غالبا بلا أبحاث جدية وبلا دراسات، واقتصر التغيير ونقده على جولات عنف وتنابذ بين الحكام ومعارضيهم.
والعرب والفرس ليسوا وحدهم ممن تعذّر نشر الديمقراطية بينهم. الصين وروسيا، ومعظم أوروبا الشرقية، وأفريقيا، وأميركا الجنوبية، كلها حضارات لا تعرف معظم دولها الديمقراطية حتى اليوم.
في زمن الحرب الباردة، ساد اعتقاد مفاده وجود ترابط بين الديمقراطية والاقتصاد الرأسمالي الحر. هكذا، بعد انهيار المعسكر الشرقي، سارع الغرب إلى نشر الديمقراطية في روسيا والدول الشيوعية السابقة، وهي محاولات — كما في العراق وأفغانستان — لم تثمر، وهو ما طرح السؤال التالي: كيف نجحت الولايات المتحدة في بناء الديمقراطية في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، وفشلت في الدول السوفياتية السابقة وأفغانستان والعراق؟
في كتابها الصادر الشهر الماضي بعنوان "تاريخ الحركات الاجتماعية في إيران"، عزت الأكاديمية في جامعة أوكسفورد، ستيفاني كرونين، الفشل الإيراني المزمن في بناء دولة ديمقراطية إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية مرّت بها إيران، إما طوعا أو تحت ضغط غربي، واعتبرت كرونين أن هذه التغييرات التي ناسبت الغرب وأدت إلى تطوره لا تناسب بالضرورة إيران.
ومن نافل القول إن إلقاء اللائمة في الفشل على الرجل الأبيض الأوروبي ونماذجه الاقتصادية والسياسية، كما فعلت كرونين في كتابها، هو التفكير السائد اليوم بين صفوف الأكاديميين الغربيين، وهو بمثابة "التكفير عن ذنوب" يعتقد الغربيون أن الرجل الأبيض اقترفها بحق الشعوب من غير البيض، وتصوير هذه الشعوب على أنها ضحية الجشع والعنصرية الغربية.
هذا النوع من التفكير قد يولّد شعورا بالفخر لدى الأكاديميين الغربيين بمدى إنسانيتهم وتعاطفهم مع المظلومين، لكنه تفكير يؤذي الشعوب غير الغربية، إذ هو يعفيها من مهمة نقد نفسها لإدراك مكامن خطأها وإصلاح ذاتها، وهو ما يجعل من عملية إلقاء اللائمة على الغرب بلادة فكرية وكسل يعفي الدول الفاشلة من مهمة نقد الذات.
على أننا لو تجاهلنا عملية الاتهام غير المبررة للغرب، لبدا كتاب كرونين بمثابة دراسة قيّمة في الاقتصاد السياسي الإيراني قدمته المؤلفة في ثلاثة من فصول الكتاب الخمسة، قبل أن تخصص الفصلين الأخيرين للبحث في موضوعين لا تحصرهما بإيران: العبودية والحجاب في الإسلام.
في الاقتصاد السياسي، تشير كرونين إلى رياح الاقتصاد الرأسمالي الحر التي وصلت إيران وأدت لاهتزاز قرون من الاقتصاد التقليدي الذي اعتاده الإيرانيون. تقول كرونين إنه على غرار الدول الإسلامية، كان يضبط السوق الإيرانية مفهوم "الحسبة" العباسي الإسلامي، وكان المحتسب موظفا في الدولة يتمتع بنفوذ واسع، وكان يضبط الأسعار بالتفاهم مع التجّار، ويراقب الأوزان، ويمنع المضاربين من تحقيق الكسب السريع. لا تتعمق كرونين في تاريخ هذه المؤسسة، لكن يمكن للقراء المهتمين بالموضوع مطالعة مؤلفات المؤرخ اللبناني في جامعة كامبريدج، باسم مسلّم.
في سباق إيران وتركيا ومصر نحو التحديث في القرن التاسع عشر، قامت كل من هذه الدول بنسخ نماذج الاقتصاد الرأسمالي والتجارة الحرة، وهو ما قوّض الدور الذي كانت تقوم به "الحسبة" تقليديا، وأناط دورها بمجالس بلدية وحكومية محلية. وسمحت التجارة الحرة للمضاربين بالاستغلال ورفع الأسعار، وهو ما أدى إلى "ثورات الخبز" بشكل متكرر، في القاهرة ودمشق وطهران وغيرها.
وأدى اهتزاز الأمن الغذائي إلى اهتزاز العلاقة بين الحاكم ومحكوميه، ما سمح لاستيلاء الضابط رضا بهلوي على حكم القجر في إيران، وأطاح الضباط الأتراك بحكم السطان العثماني، وانهار ملك مصر، أولا أمام حكم الإنكليز وبعد ذلك أمام انقلاب "الضباط الأحرار".
وواصل الحكام الجدد، بمساندة النخبة الثقافية، الاندفاعة نحو التحديث، فساهموا في توسيع الشرخ بين الحاكم والنخبة وطبقة الأثرياء، من جهة، والطبقات الأقل دخلا، من جهة أخرى، وهو شرخ استغله الإسلام السياسي، كما في الانقلاب الذي أطاح بمحمد رضا بهلوي في إيران عام 1979، وبعض ثورات الربيع العربي في العقد الماضي.
هكذا تحمّل كرونين الحداثة مشكلة فشل الدولة الذي تعاني منه إيران وبعض دول العرب اليوم، بدلا من إلقاء اللائمة على هذه الشعوب نفسها، وعلى حكامها ومعارضيهم، في الفشل في اللحاق بالحداثة. ويمكن القول إن الملكيات العربية القائمة اليوم — والتي نجت من انقلابات الشيوعيين ثم التغيير الأميركي وبعده الربيع العربي — هي دليل على أن الحداثة قد تكون ممكنة بشكل تدريجي، لكنها مستحيلة بالشكل الفوري الذي وعد به الانقلابيون العسكر، وبعدهم ثوار الإسلام السياسي.
ويمكن الاستعانة بالتجربة الأوروبية، كما اليابانية والكورية الجنوبية، للاستدلال على طريقة التدرج من ما قبل الحداثة إلى الديمقراطية، حيث يبدو أن قيام الحاكم، بقوة القانون والمحاكم والعدالة، برعايته قيام سوق تنافسية حرة، يدفع الكفاءة إلى الصدارة، والكفاءة بدورها تكسر الروابط القبلية التقليدية، إذ هي تمنح الفرد مدخولا يسمح له بالاستقلال عن القبيلة.
والاستقلال المالي والاجتماعي يؤدي لاستقلال في التفكير السياسي والمواقف، فيتحول الأفراد إلى مواطنين، مصلحتهم تكمن في حماية الدولة وحكم المؤسسات والقانون. أما من يحاربون سيادة القانون وحكم المؤسسات، فالأفراد ممن لا كفاءة لديهم ممن لا يجدون إلا العنف وسيلة لكسب الرزق، ما يقوّض الدولة ومؤسساتها والاقتصاد الحر، ويستبدله بالاقتصاد الريعي الذي يرى في الاقتصاد غنائم للحاكم، يوزّعها بدوره على العصابات العنفية التي تفيد من حكمه وتبقيه قائما.
تخرج كرونين من الإطار الإيراني وتشير إلى القبائل العربية التي سيطرت، على مدى قرون كثيرة، على جسر عبور التجارة العالمية بين الشرق والغرب. لكنها بسبب انحيازها لإيران ضد العرب، لا ترى كرونين في عرب الزمن الغابر تجّارا بنوا ممالك وحضارة متفوقة تبنى حرفها ودينها وتقاليدها الإيرانيون والأتراك، بل تراهم قطّاع طرق فرضوا خوّات على قوافل التجارة التي مرّت عبر أراضيهم.
مقاربة تعثر انتشار الديمقراطية في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن ومصر وليبيا من زاوية الاقتصاد السياسي فكرة سديدة. لكن الانحياز لإيران، وإلقاء لائمة فشل هذه الدول على الديمقراطية نفسها وعلى الاقتصاد الرأسمالي، واعتبار أن هذه المبادئ الغربية لا تناسب المجتمعات التقليدية، هو ضرب من "الاستشراق" الذي تنتقده كرونين تقريبا في كل صفحة من كتابها وتمارسه في الوقت نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق