حسين عبدالحسين
جددت البطريركية المارونية حملتها لاستعادة المبادئ المؤسسة لدولة لبنان، وهي المبادئ التي قدمت له عقودا من الرخاء و"البحبوحة"، إلى أن شتّت البلاد عنها ووصلت للانهيار الشامل الحاصل.
مبادئ لبنان أساسها الحياد، أي الامتناع عن الانخراط في أي من المحاور أو المواجهات الإقليمية أو الدولية، كما حصل إبان الاستقلال في عام 1943، مع تخلي المسيحيين الموارنة عن التمسك بالغرب وتنازل المسلمين السنة عن الوحدة مع العرب.
والأغلب أن سبب الحياد الاستقلالي كان سببه إمساك بريطانيا بأقطاب الاستقلال وإقصاؤها فرنسا وأزلام باريس في لبنان، مثل عائلتي إدة وجنبلاط. كانت بريطانيا تبحث عن إمبراطورية بديلة عن التي خسرتها في الحرب العالمية الثانية مع صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، واعتقدَت أن الحكم الهاشمي في العراق والأردن ومعهما سوريا ولبنان وفلسطين ومصر يمكنها أن تشكّل وحدة عربية تحت وصاية بريطانية.
هكذا غذّى مستعربو لندن عقيدة القومية العربية، وأشرفوا على إقامة جامعة الدول العربية، وانحازوا للعرب في فلسطين، فارتمى الصهاينة في أحضان فرنسا في 1948، التي ثأرت لخسارتها المشرق بتكبيدها وحلفائها الإسرائيليين هزيمة لبريطانيا والعرب في فلسطين. مع ذلك، حصل العرب على نصف الأرض بعدما قاد غلوب باشا البريطاني الجيش الأردني لانتزاع الضفة الغربية، بما فيها القدس القديمة، من سيطرة الإسرائيليين. ولم يقِم العرب دولة فلسطين، بل ضمّوا الضفة والقدس إلى دولة الأردن.
لبنان أفاد من سطوة بريطانيا عليه في تبنيه سياسة حياد، وعندما حاولت الاستخبارات الفرنسية هزّ الحكم اللبناني، مثل في دفعها رجلها أنطون سعادة وحزبه "السوري القومي الاجتماعي" إلى الانقلاب في سوريا ولبنان.
تغلبت دمشق وبيروت ولندن على سعادة وباريس، وساد الحياد اللبناني، وصار لبنان واحة أمن واستقرار، فتدفقت على بيروت رؤوس الأموال من الدول العربية المهتزة بفعل الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية في مصر وسوريا والعراق.
حتى هزيمة 1967 التي كبدتها إسرائيل للعرب في حرب "الأيام الستة" لم تؤثر في لبنان بسبب تمسكه بحياده الحديدي. والحياد هذا هو سبب فوز لبنان بلقب "سويسرا الشرق"، تيمنا بالدولة الأوروبية المعروفة بحيادها القاسي حتى في ذروة الحرب العالمية الثانية التي التهمت نيرانها القارة الأوروبية ومعظم أنحاء العالم.
لكن عواقب الهزيمة ارتدت على لبنان إذ كابر زعيم العروبة المصري، جمال عبدالناصر، وأطلق حرب الاستنزاف والعصابات، فراحت الميليشيات الفلسطينية تطلق عمليات إرهابية من الأردن وسوريا، وأحيانا لبنان، ضد إسرائيل، وتعرضت هذه الدول لردات الفعل الإسرائيلية. الحكم الهاشمي في الأردن أدرك فداحة استيلاء الميليشيات الفلسطينية على سيادته، فطرد ياسر عرفات، الذي انتقل إلى لبنان. ومثل الأردن فعل البعث السوري.
وحده لبنان بدا كالبيت بدون سور ولا أبواب، وتحت ضغط عبدالناصر وبضيافته، وبسبب الهلوسة التي تدفع كل ماروني طامح للرئاسة إلى بيع البلد للوصول إلى قصر بعبدا، وقّع قائد الجيش آنذاك، إميل بستاني، على اتفاقية القاهرة عام 1969، التي سمحت للميليشيات الفلسطينية بـ "تحرير فلسطين" من جنوب لبنان، مرورا بجونية في وسطه.
أنهت اتفاقية القاهرة الحياد اللبناني، وانتقلت سيادته إلى يدي عرفات، ثم عائلة الأسد السورية، التي أورثتها بدورها لميليشيا "حزب الله" الموالية لمرشد إيران، علي خامنئي.
السيادة الإيرانية أعادت ترتيب لبنان حتى صار يشبهها، وفي محورها، وهو محور غارق في الأمية لناحية العلوم السياسية والاقتصاد، ويخال أنه قادر على إقامة إقليم تقوده إيران ويكون مكتفيا اقتصاديا ومنعزلا عن العالم، ولا يلتزم القوانين الأممية. أما النتيجة، فعزلة وبؤس تعاني منها إيران وكل الدول العربية الواقعة تحت سيادته.
البطريركية المارونية هي التي سعت لإقامة لبنان، ومنحته شعارها المستوحى من العهد القديم، أي الأرزة، وتصورته دولة مستقلة عن النفوذ العربي والاسلامي في المنطقة، ومحايد في الصراعات.
وبعد نهاية الحرب الأهلية وسيطرة الأسد على لبنان، قاد البطريرك الراحل، نصرالله صفير، معركة دامت سنوات لاستعادة السيادة، ورعى لقاء "قرنة شهوان" وأرسل ممثله إليه، وتواصل مع عواصم القرار في العالم، واستند إلى رعاية فاتيكانية حتى تحقق ما كان يبدو حلما، وهو استقلال لبنان عن حكم الأسد، مع انضمام السنة والدروز للموارنة الاستقلاليين ممن كانوا يعيشون في إحباط بالسجون والمنافي.
لكن بعد الأسد، صعد "حزب الله"، ووجد يوضاسا، مثل إميل بستاني الذي تخلى عن الحياد، وبذلك السيادة. يوضاس "حزب الله"، ميشال عون، كان قائدا للجيش يوما، وكان منفيا واستقلاليا، ثم انقلب على نفسه وعلى خطابه وتاريخه، وأصبح رئيسا كمكافئة له، وهو اليوم يرفع يديه استسلاما ويردد أن "حزب الله" مشكلة دولية لا تقوى دولة لبنان على استعادة سيادتها منه.
لكن بطريرك المارونية لا أطماع له، وهو ما يدفعه إلى التمسك بالسيادة والحياد، ولذلك أرسل البطريرك الراعي ممثله، المطران سليم مظلوم، لرعاية "لقاء بيت عنيا"، الذي طالب بحياد لبنان وخروجه من محور الممانعة المنبوذ دوليا والمأزوم اقتصاديا، والانخراط في الاقتصاد العالمي، وهو ما يتطلب إلغاء قوانين تجريم التعامل مع مواطني هذه الدولة أو تلك، والسماح، بل تشجيع اللبنانيين، على التعويل على ثقافتهم المبنية على المبادرة الفردية والتجارة والمنافسة إقليميا ودوليا.
وطالب مظلوم، نيابة عن الراعي، بمؤتمر دولي لانقاذ لبنان من مخالب إيران وميليشياتها. لكن العالم منشغل اليوم عن مشاكل دولة صغيرة مثل لبنان، وهو تماما ما حصل بين انتهاء الحرب الأهلية في 1990 وجلاء جيش الأسد عن لبنان في 2005، انتظر لبنان خلالها 15 عاما، تمسك فيها صفير بالدفع للاستقلال حتى كان ذلك. هذه المرة، يتمسك الراعي بالحياد واستعادة الاستقلال.
قد ينتظر لبنان 15 عاما أخرى لتحقيق الحياد، لكن تعذر تحقيقه لا يعني السكوت عمّا يمس بجوهر وجود دولة لبنان، وهو جوهر لا يفهمه السياسيون أصحاب المصالح الضيقة، بل يعرفه فقط أصحاب الرؤى ممن لا مصالح لهم تعلو على وطنيتهم اللبنانية، وممن لا يضحون بلبنانهم وحياده، لا من أجل القدس ولا من أجل غيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق