حسين عبدالحسين
"عندما يفشل السحر" هو عنوان مذكرات الأكاديمي الأميركي من أصل لبناني فؤاد عجمي المتوفي في 2014. أرملة الراحل عثرت صدفة على مئات الأوراق التي كان عجمي كتبها بخط يده قبل وفاته، وتحدث فيها حصرا عن سنوات حياته التي قضاها في لبنان، منذ ولادته في العام 1945 وحتى هجرته إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته، وهو في الثامنة عشرة من عمره.
عجمي أمضى حياته شبه متكتم على خلفيته العائلية وحياته الخاصة إلى حد دفع البعض للاعتقاد أن الرجل هو "عربي كاره لنفسه". لكن مذكراته تدحض ذلك، وتلقي الضوء على التطور الفكري لصبي نبيه فكريا تبنى أفكارا حداثية لم تتواءم مع محيطه ومجتمعه، فوجد نفسه أمام خيار: إما الانخراط في منظومة لا يقبل أسسها أو الرحيل والبحث عن وطن بديل، وهو رحيل برره تاريخ الجد الأكبر لعجمي، الذي فرّ من تبريز الإيرانية بسبب انتسابه لطائفة أعلنت اعتقادها بظهور المهدي، ما عرّضها لاضطهاد إيراني وفرار منتسبيها، وكان أحدهم اسمه ضاهر، انتهى به المطاف في قرية أرنون في العام 1850، واكتسب لقب "العجمي"، ومنه تنحدر عائلتا ضاهر وعجمي اللتين تدركان القرابة بينهما حتى اليوم. ويعتقد عجمي أنه برحيله، يكون أغلق دائرة زمنية من 110 سنوات فصلت بين لجوء جده الأكبر الى لبنان ورحيله هو عنه.
أما والدة عجمي، بهيجة عبدالله، فمن قرية الخيام، وكانت مطلقة وأم لثلاثة أولاد عندما اقترنت بأبيه الذي يصغرها سنا. بعد ولادة رياض، الأخ الأكبر لفؤاد، ارتبط الأب بعلاقة بامرأة في بلدة النبطية القريبة. لكن حتى تقنعه الأم بالبقاء، حملت بفؤاد كنوع من السحر الذي تمارسه النسوة للحفاظ على أزواجهن. لكن مولد فؤاد لم يثن الوالد و"فشل السحر".
التصقت الوالدة بجدي ولديها في أرنون، ومع ذلك، عانى عجمي من فقر واحتقار الآخرين ونظرتهم إليه على أنه ابن المطلقة، التي أخذت فؤاد الصبي معها إلى السيدة زينب قرب دمشق وندرت انتقاما من زوجها. وانتقل الأب وعائلته الجديدة إلى ضاحية برج حمود الفقيرة، شمال بيروت، وافتتح مدرسة أدارها ليعتاش منها، وانتقل فؤاد وأمه وأخوه إلى الضاحية نفسها، وعاشوا على مقربة من والده في بيت سقفه من التنك كان يغرق بالماء في الشتاء. انتسب الولدان لمدرسة والدهما، التي أفلست بسبب سوء إدارتها، فهاجر أبو فؤاد إلى السعودية ليرتزق فيها وعاد منها ثريا، واشترى بناية في حي راق في بيروت، وأرسل أولاده إلى مدارس أميركية.
لم يزعج الفقر فؤاد ولم يدفعه إلى الهجرة. ما دفعه إليها هو فشل وطنه في مواكبة التغيير العالمي نحو الحداثة، وتمسكه بتقاليد بالية تكبح التجديد والتطور والإبداع. يشير عجمي إلى إعجابه بالشعر، وخصوصا بنزار قباني، وأن صيته ذاع بين العائلة والأصدقاء، وطلب منه والده كتاباته ليقرأها. لكن شعر عجمي كان غزلا، والغزل يطعن في الرجولة ويزعزع التنظيم المجتمعي الأبوي القاسي الذي لا يبدي فيه الآباء عاطفة ولا حب ولا رحمة، فأخفى الأب أعمال ابنه ولم يعلّق على ما قرأه.
وفي كتاب عجمي الكثير عن علاقات عاطفية خارج الزوجية مارسها والده وأعمامه وأقرباؤه في مجتمع يتظاهر بالفضيلة علنا، ولا يلتزمها سرا، بل أن عجمي يفتتح كتابه بالحديث عن "جريمة شرف" ارتكبتها صديقة لأمه وأسرّت بها إلى صديقتها.
"بكل طريقة ممكنة، قال لبنان إن لا شيء خارج عن المألوف أو المتعارف عليه مقبول. رجال دين الطوائف المتنافسة في البلاد أغلقوا الطريق أمام أي فكر مبتكر، أي شيء خارج عمّا يسمحون به"، كتب عجمي، مضيفا "أن رئيس الحكومة، الذي يعلق زهرة قرنفل على صدره (صائب سلام) ويحمل سيجارا، كان يتجول بسيارته ذات النمرة الخاصة ويطلب من الرجال أن لا يحلموا"، ومثله فعل "أصحاب الامتيازات التجارية والوكالات الحصرية" ومثلهم "محررو صحف المدينة الذين نشروا في صحفهم نفس صور الرجال والنساء يوما بعد يوم".
وقال عجمي إن انفصاله الفكري عن لبنان كان عميقا، غالبا بسبب التعليم الذي تلقاه في المدارس الأميركية في بيروت، التي يقول فيها لورنس العرب إن الإرساليات الأميركية في العالم العربي "علّمت الثورة بدون قصد". ولم يفت عجمي الإشارة إلى الفوارق الشاسعة بين أساتذته العرب، الذين منعوا تلامذتهم من التفكير وأصروا على التلقين باستخدامهم العنف، وأساتذته الأجانب، الذين علّموا عبر الحوار والنقاش والاختلاف في الرأي.
عن إصراره على الافتراق مع لبنان والعالم العربي، كتب عجمي: "لم أقو على التظاهر بقبول أساطير البلد عن نفسه، وعن الشرف، كما هو متوقع من كل من ولدوا في الثقافة التي أنجبتني أن يعتصموا بالصمت.. أحببت مسقط رأسي وأشفقت عليه، فحبي أخذته (بلادي) بلا مقابل.. وصدّقت ما قاله الغرباء عن جاذبيتها وجمالها".
عجمي كان عربيا فخورا. ولد في لبنان، وعاش في أحشائه، وترعرع على أنظمته الاجتماعية والسياسية، وأدرك فداحة المشكلة التي يغرق فيها العرب عموما، وأدرك أن الإصلاح لا يكون إلا داخليا وذاتيا، ربما بمساعدة الدول التي نجحت بسبب تبنيها مبادئ التنوير. لكن بدون التغيير الداخلي، رأى عجمي العالم العربي قصرا من الرمل، وصورة بلا مضمون، لا فائدة في القاء اللوم في فشلها على الأجنبي والغريب، ولا حلول لها بالتمسك بنظريات المؤامرة والأساطير.
هكذا كان عجمي. اختار حضارة كافأت نبوغه وانتسب إليها وانتسبت إليه، ووضع معرفته بعالمه القديم في خدمة محاولات عالمه الجديد إصلاح القديم. فشل الإصلاح وفشل السحر.
قصة عجمي، الذي ولد وترعرع في قلب الجنوب اللبناني وعرف لبنان والعرب عن كثب وتخلى عنهم ليأسه من تغييرهم، هي عكس قصة الأميركي إدوار سعيد، الذي ولد أميركيا في بيت فلسطيني يتحاور بالإنكليزية، وتعلم في مدارس علية القوم في مصر، وانتقل إلى أميركا. ثم في الثلاثين من عمره، اكتشف سعيد العالم العربي، وتخيله من بعيد على أنه أجمل بكثير مما هو عليه، فاختار سعيد العروبة، ووظّف أهم لغوي ليعلمه العربية، وراح يشتكي للعالم شقاء العرب من مكتبه المريح الذي يطل على نهر هدسون في مدينة نيويورك.
العربي عجمي أدرك أن العروبة أكذوبة، وأن خلاص العرب يبدأ من داخلهم. أما الأميركي سعيد، فاعتقد أن العروبة خلاص، وأن ما يعيقها يأتي من الخارج الإمبريالي، الذي تقتصر رؤيته إلى العرب على نظرة مشوّهة لأن الغربيين غريبين عن دنيا العرب، ونظرتهم للعرب والعروبة استشراقية خاطئة.
بين عجمي وسعيد، من كان صاحب معرفة أعمق بعالم العرب؟ ومن الذي كانت فكرته رومنطيقية، سطحية، واستشراقية؟
حاربت طبقة المثقفين العرب عجمي لصراحته، واتهمته بالخيانة (فقط لمخالفته رأيها)، وهللت لسعيد، على الرغم من استشراقه، ووصفته بالوطني لأنه وافق الأكذوبة العربية العامة التي تلقي بلائمة فشلها على الآخرين بدلا من أن تصارح نفسها وتبحث عن الحلول داخلها.
يقول الإمام علي بن أبي طالب إن صديقك من صدَقَكَ لا من صدَّقك، أي أن صديقك هو الصادق معك، لا من يقبل كل ما تقوله ويهلل لك متجاهلا عيوبك وأخطاءك. عجمي صدَقَ العرب وسعيد صدَّقهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق