حسين عبد الحسين
لم يرحم زياد الرحباني احداً في مثاليته. لم يترك اطلالة اعلامية إلا وتعرّض لأصدقائه ممن عدّهم يوماً رفاقاً معه في النضال الحزبي.
سامي حواط، واحمد قعبور، ومنى سعيدون، وآخرون، كلّهم وضعهم الرحباني في خانة الخونة والاعداء. كيف يجرؤ هؤلاء على السعي وراء الرزق لدى أصحاب رؤوس الأموال ومؤسساتهم الاعلامية، وفي طليعتهم رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري؟ حسب اعتقاد الرحباني.
وزياد الرحباني هذا سليط اللسان، سريع البديهة، يسخر من الاخرين بفكاهة، لا كبير ولا صغير في حضرته، نذر نفسه للعيش في حاجة مالية، ويكرر انه رغم موهبته، لم يحول انتاجه الى مهنة مربحة.
ولأن الرحباني ملاك ينشد مجتمعا يتساوى فيه الافراد في الثروة، فهو يسخر من كل من يسعى وراء المال لتأمين العيش الكريم، ويتهمه بالجشع، وبيع الذات، ومسايرة الرأسماليين سبب مآسي الشعوب.
والرحباني ثوري ايضا، ومجدد، حسبما يعتقد. لا يحب اللغة، ولا قواعدها، ويتندر على من يبرعوا فيها. يكره المثابرين في العمل، والمثقفين، والشعراء، والسياسيين، والكتاب، وكل من ينفق وقتاً في تطوير نفسه او مهنته، ويصرّ على الفوضى.
هذه الشخصية التهكمية لدى زياد الرحباني اكسبته شعبية فائقة، خصوصا بين الشباب في الثمانينات والتسعينات، وجعلت من شخصيته نموذجا يقلده هؤلاء. ويندر ان تتحدث الى شاب، وخصوصا من مناصري اليسار في شقيه الشيوعي الميت والديموقراطي المنحل، إلا وتسمع في حديثه نبرة الرحباني، واسلوبه، او حتى مقاطع كاملة من مسرحياته.
ولا يسابق الرحباني في شعبيته الا المغني جورج وسوف، الذي يقلده في نبرة صوته وتصرفاته عدد كبير من الشباب اللبنانيين، معظمهم من فئات غير يسارية.
يضاف الى شعبية الرحباني الكاسحة موهبته الموسيقية التي تظهر احياناً، وتختفي احياناً اكثر، فضلاً عن كونه ابن المغنية الاسطورة فيروز.
هذه الشعبية تجعل من تهكم زياد الرحباني في وجه الاخرين عملا موجعاً. وهو، كالطفل غير الناضج، لا يرى عواقب أذيته، بل غالباً ما يبدو ان السعادة تتملكه وهو يري لائحة من يسخر منهم، لاسباب متعددة، تتسع اكثر فاكثر.
وهكذا، يفتري زياد على كثيرين.
لنتصور ان الرحباني هذا كان عقله كبيراً فلا يحقد، بل يتفهم الاخرين وظروفهم، ويشجع على العمل الدؤوب والمثابرة، ولا يمانع في ان "يدبّر" اصدقاؤه لقمة عيشهم، حتى لو كان بالعمل لدى مؤسسات الحريري الاعلامية، التي يكرهها هو، او في الصحف اللبنانية، التي تمولها ايران، مثلا.
ولنتصور انه كان يقدّر المجتهدين، واصحاب الموهبة في الكتابة والشعر والثقافة، او حتى الشعراء المبتدئين اوممن يحاولون ان يصبحوا شعراء، على الرغم من قلة جودة كتابتهم او شعرهم.
ولنتصور ان الرحباني كان بمقدوره ان ينتج المزيد من اعماله، الموسيقية او المسرحية، او ان يحولها الى اعمال تجارية مربحة، قد يستخدم ارباحها لدعم تصوراته في الثقافة، او السياسة، او ربما في انشاء مدرسة موسيقية تتأثر باسلوبه الغني.
لكن الرحباني لا يتمتع باي من هذه الصفات المفيدة للمجتمع، الشيوعي الذي ينشده او الرأسمالي الذي يكرهه، بل هو فوضوي لم تسعفه فوضويته في الحفاظ على شطحاته الموسيقية والمسرحية، فتملّكه الاهمال، والحاجة المادية، وعمم فوضويته وقلة احترامه للاخرين او تفهمه لظروفهم على عدد كبير من الشباب اللبناني، وبدلا من تعميم موهبته، عمّم حقده على النجاح والناجحين وتهكّمه عليهم.
لكن الرحباني، الملحد، فاته واحد من اهم دروس الديانة المسيحية التي ولد فيها: لا تدينوا كي لا تدانوا.
سخرية القدر رمت زياد الرحباني، الذي سخر من كل من تقاضى اجراً لقاء عمل قام به، في ابو ظبي. وببساطة، يمكن لاي منا ان يتابع حفلة اقامها الرحباني، وان يستمتع بموسيقاها المستعادة من مؤلفاته الماضية او المقتبسة بمهارة من معزوفات عالمية (ولا ضير في الحالتين)، على صفحة يوتيوب.
ثم يطالعنا الرحباني وهو يتوجه بالشكر الى حكومة ابوظبي، ولا ضير في ذلك ايضاً، قبل ان يختم حفلته بمقطوعة "ديار بكر".
يقول بعض سكان الامارة ان زياد اليوم يعيش في ضيافة رجل اعمال قدم له مسكناً واجراً، في مقابل حفلات موسيقية يحييها في مطاعم الامارة. وطبعا، "صحتين على قلب" الرحباني، فمن حقه ان يعتاش من موهبته الموسيقية و اعماله.
اما المغزى من مقالتنا هذه، فهو تذكير الرحباني بالسبب الذي أطلقه علنا لغضبه على شريكه السابق وصديقه سامي حواط. ففي احدى مقابلاته قبل اكثر من عقد، اطل الرحباني ليقول انه "غضب" من الحواط لانه كان يعزف ويغني اغنية "انا مش كافر، بس الجوع كافر" في مطاعم بيروت الفخمة "على قرقعة صحون من تهاجمهم الاغنية في الاساس".
في ابوظبي، لا بد من ان نسأل زياد الرحباني ان كان صوت قرقعة الصحون يزعجه، او ربما، تفاديا لهذا التناقض، لا يؤدي الرحباني اغنية "انا مش كافر"، بل "يركّ" على مقطوعاته من الجاز، الشرقي او الغربي منها.
الى زياد الرحباني، نقول ان الوقت قد حان ليقدم اعتذاراته الى عدد كبير من الناس، في طليعتهم الحواط
وقعبور.
طبعا، نظرا لشعبيته وشعوره بانه في موقع "توزيع شهادات" في الوطنية والاشتراكية والمبادئ، لا نتوقع من الرحباني ان يتغير، فيصبح منصفاً ومتفهماً ولطيفاً، اويعتذر. فزياد الرحباني لا يخطأ، اذن لا يتغير ولا يعتذر.
اما اذا تغير الرحباني، الذي كان يشتم في الاذاعة "الجندي السوري" لمشاركته في مجزرة مخيم "تل الزعتر" للاجئين الفلسطينيين في العام 1976، فيذهب الى دمشق ليغني امام نظام "تل الزعتر" نفسه، فهذا تغيير فيه المزيد من الحقد والنكاية، ولا يوجب الاعتذار، وهو نوع التغيير الذي برع فيه الرحباني.
اما نحن، فلن نعيّر زياد ولن نشمت به، لا لتغييره في موقفه السياسي في دمشق، ولا لسعيه خلف رزقه في ابوظبي، بل سنتفهم وجهات نظره، ورؤيته للامور، وحاجاته المادية، فنحن "كبار"، اما هو، فلم يعد "كبيراً" كما كان يعتقد في الماضي، وكنا معه في الاعتقاد هذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق