تسعى تركيا الى اقامة زعامة شرق اوسطية جديدة بعد عقود من غيابها واقامتها في الظل، اقليميا، اثر انتهاء الحرب الكونية الاولى في العقد الثاني من القرن الماضي. لكن هذه العودة تتطلب صياغة سياسة خارجية جديدة مبنية على الوقائع القائمة، من ضمنها تناقضات.
عودة تركيا تأتي في وقت تتمتع فيه ايران بنفوذ غير مسبوق، وتمسك بمفاصل اساسية، وترعى توازن القوى في العراق، ولبنان، وغزة، وحتى سورية واليمن. كذلك، تمضي ايران في تخصيب اليورانيوم، ما يجعل امكانية تحولها الى دولة نووية حقيقة قائمة.
ولا يفوت القيادة الايرانية ضرورة تعبئة شعبوية من نوع آخر في العالمين الاسلامي والعربي، فيردد مسؤولوها غالبا تهديدات بحق اسرائيل، من غير المرجح ان تتبلور او ان تؤدي الى مواجهة ايرانية مع اسرائيل كرمى لعيون الفلسطينيين.
اما تركيا، وعلى عكس ما تعلنه من وقوفها الى جانب طهران في مواجهتها مع المجتمع الدولي حول ملفها النووي، فهي تخشى حصول طهران على سلاح نووي، بل تحاول الدخول في سباق غير معلن مع الايرانيين.
وكانت تركيا اعلنت نيتها بناء منشآت نووية العام 1998، الا ان المشاريع النووية لم تتبلور، رغم توقيع بروتوكول تعاون مع واشنطن قبل عامين.
لكن الى ان تصبح تركيا نووية، وتمسك ببعض مفاصل القرار في منطقة الشرق الاوسط، تلجأ الى استخدام ديبلوماسية اكثر شراسة تعتقد انها ستعيد لها زعامتها في المنطقة.
تقول مصادر اميركية متابعة للسياسة التركية، ان «السياسة الخارجية التركية مستوحاة الى حد كبير من الاسلوب الذي اعتمده (الرئيس السوري الراحل) حافظ الاسد، والتي جعلت من دمشق لاعبا اقليميا يحسب حسابه في عقد التسعينات». وتضيف: «سياسة الاسد الراحل، التي تعتمدها انقرة اليوم، مبنية على عناصر عديدة، ابرزها استخدام ديبلوماسية ذات وجهين، وهذه تقضي ان تعلن تركيا مواقف شعبوية في الموقف الفلسطيني تثير حماسة الشارع الاسلامي، وفي الوقت نفسه تحافظ على صداقة مع اسرائيل واميركا في الكواليس».
العنصر الثاني، الذي توظفه تركيا في سياستها الخارجية، على غرار ما فعله الاسد في الماضي حسب المصادر ان «تحاول تركيا لعب دور المحاور» في منطقة الشرق الاوسط. «هذا يعني اننا ان احتجنا (في واشنطن) الى تثبيت الوضع الامني في العراق او في لبنان، او اقناع (الرئيس السوري بشار الاسد) بالتغيير من تصرفاته، او محاولة الحوار مع ايران، علينا المرور بانقرة اولا».
تلفت المصادر الى ان هذه الملفات هي التي تثيرها الوفود التركية المتقاطرة بكثافة الى واشنطن هذه الايام.
الوفد الاخير الذي قاده نائب رئيس «حزب العدالة والتنمية» عمر تشيليك، وكان في عداده ابراهيم كالن مستشار رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان، شدد على هذه النقاط.
حتى ان المسؤولين الاتراك قالوا علنا معظم ما قالوه في اجتماعاتهم الخاصة مع نظرائهم الاميركيين.
«يحاول الاتراك ان يبرهنوا ان رؤيتهم تجاه امور الشرق الاوسط هي الصحيحة، وانهم مؤهلون للعب دور قيادي، وان على واشنطن ان تعهد اليهم لعب هذا الدور».
تشيليك كان اشار الى «نجاح وساطة زعم ان بلاده قادتها بين العالم وسورية». ومما قاله: «... عندما مددنا يدنا الى سورية لإنشاء علاقة معها، جاءتنا انتقادات كثيرة، اعتبرت اننا نعترض على مطالب الغرب، واننا نخرج سورية من عزلتها، واننا نقيم علاقة مع نظام غير شرعي».
واضاف: «لكننا تابعنا مفاوضاتنا مع سورية، وفي النهاية، نصحنا سورية بالتجاوب مع مطالب المجتمع الدولي، وبالالتزام بالقوانين الدولية، واليوم، نرى الولايات المتحدة تقوم بتعيين سفيرها الى ذلك البلد».
يشير مسؤول اميركي الى ما يعتقده خطأ فادحا في «الرؤية التركية نحو الملف السوري». يقول: «سبب انفتاح سورية على تركيا هو ان انقرة شكلت طوق نجاة لدمشق في خضم عزلتها الدولية... لو كانت العلاقة السورية الغربية في احسن حالاتها، لما كان الانفتاح التركي على سورية ذات قيمة تذكر».
كذلك، يقول المسؤول الاميركي ان تركيا تحاول «الدفع بعملة غيرها، مثلا تعرض ثباتا في العراق او في لبنان، وهي اصلا لا تملك عناصر تأثير في هذين البلدين».
تركيا ما زالت حديثة العهد في سياسة الشرق الاوسط، حسب المسؤولين الاميركيين، الذين يضيفون: «تحاول تركيا ان تلعب دور الوساطة، ويساعدها في ذلك عضويتها الموقتة في مجلس الامن، لكن هذه الوساطة غير مضمونة النتائج في الملف الايراني، والشعبوية المستجدة في ملف الصراع العربي- الاسرائيلي، ليس لدى انقرة الكثير لتقديمه لمنافسة النفوذ الايراني».
حتى الساعة، لم تتوصل واشنطن الى صيغة للتعامل مع الاسلوب التركي المستجد. يقول مسؤولون اميركيون: «انقرة حليفة، وعضو في الناتو، ونحن لا نمانع ان تقوم بلعب دور قيادي في المنطقة، ولكن ما تفعله تركيا في الواقع هو المزاحمة على الظهور في الصور والاعلام، واطلاق تصاريح لاثارة الجماهير، وهذا يشبه قصة التاجر الذي ظل يحسب رأسماله ربحا حتى ادى ذلك الى افلاسه».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق