بقلم حسين عبد الحسين – واشنطن
لم تدخل عملية كتابة التاريخ في صلب الثقافة العربية بعد اذ تستمر قصص الماضي في تحديد كيفية رؤية الحاضر، على الرغم من محاولات متفرقة لتقديم رؤى موضوعية لاحداث تاريخية.
حتى الماضي اللبناني القريب يأخذ اشكالا وتلاوين تتناسب ورؤية الراوي السياسية. النائب وليد جنبلاط، مثلا، يصر على ان قرار مجلس الامن 1559 الصادر في العام 2004، لم يحظ يوما بموافقته او موافقة حليفه الرئيس الراحل رفيق الحريري، مع ان عودة سريعة الى الارشيف تظهر عكس ذلك. النائب ميشال عون يتصرف وكأنه ولد حليفا لـ "حزب الله"، وكأنه لم يزر واشنطن يوما ويصف الحزب بالارهابي، ثم يشير باصابع الاتهام الى دمشق في اغتيال الحريري في العام 2005.
امين عام "حزب الله" حسن نصرالله كرر مرارا انه في حال خسارة التحالف الذي كان يقوده في انتخابات 2009 البرلمانية، كان سيكتفي بلعب دور المعارضة وترك الحكم للغالبية. قول نصرالله جاء يوم كانت الاستطلاعات تشير الى حتمية فوز تحالفه. اما بعد تفوق التحالف المناوئ، صار الامين العام يطالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وكأن تصريحه السابق لم يكن.
التاريخ هو الخاسر الاكبر من ربطه بالحاضر، وهذا اسلوب سائد لدى معظم الشعوب. الا ان بعض المتمردين في لبنان، من اكاديميين وصحافيين، قدموا محاولات متقدمة لكتابة تاريخ لبنان بعيدا عن الولاءات والعقائد والتوصل الى روايات محددة استنتاجاتها سلفا.
من هؤلاء نذكر، الى استاذنا المؤرخ الكبير كمال الصليبي صاحب المؤلفات المتعددة في تاريخ لبنان والمنطقة، العزيز الراحل سمير قصير، الذي اغنت مؤلفاته رؤيتنا لتاريخ بيروت والحرب الاهلية، والمتخصص في التاريخ العثماني عبد الرحيم ابوحسين، وغيرهم. كل واحد من هؤلاء حاول الاضاءة على مراحل مختلفة من تاريخ لبنان باكبر قدر من الموضوعية. الى هؤلاء انضم اخيراً الصحافي الزميل مايكل يونغ في كتابه "اشباح ساحة الشهداء"، الصادر الشهر الماضي بالانكليزية، عن دار "سايمون اند شوستر" الاميركية العريقة.
يؤرخ يونغ لواحدة من اكثر المراحل تعقيدا في التاريخ اللبناني التي تمتد من العام 2005 وحتى العام 2009، والتي شهدت اغتيال الحريري وقصير وغيرهم، واندلاع "انتفاضة الاستقلال"، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وعودة عون من المنفى، وخروج الزعيم المسيحي الآخر سمير جعجع من السجن، وحرب تموز 2006، وحرب نهر البارد 2007، واحداث ايار 2008 الدامية، التي ادت الى اتفاقية الدوحة وانتخابات مجلس النواب اللبناني الحالي.
ولأن كتاب يونغ موجه الى قراء جلهم من الاجانب، فهو يقدم الشخصيات والاحداث بكثير من التفصيل.
يونغ لا يقدم روايته التاريخية وفقا لتسلسل زمني معين، فيفتتح فصوله بالحديث عن سمير قصير ومعرفته به قبل مقتله، وحضوره الى موقع الاغتيال فور حدوثه، لينظر في عيني المغدور لاحقا ناشر "النهار" الصحافي جبران التويني، ويرى تأثره البالغ.
الا ان يونغ، وهو لأب اميركي توفي مما دفع امه اللبنانية للعودة مع طفلها مايكل لتربيته في لبنان، يقدم لـ "انتفاضة الاستقلال" برسم الصورة السائدة في البلاد في زمن الوصاية السورية. وينقل يونغ مقولة شهيرة على لسان حاكم لبنان الفعلي في حينه قائد "جهاز الامن والاستطلاع في لبنان" غازي كنعان، الذي كان يردد ان اللبنانيين متفوقون في التجارة، وان عليهم ان يتفرغوا لجني الاموال، وان يتركوا شؤونهم في الامن والسياسة للسوريين.
ويعتبر يونغ ان الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد احكم سيطرته على لبنان ببراعة ومن خلال سياسيين لبنانيين، بعضهم يتمتعون بثقل شعبي، والبعض الآخر اعتمدوا في وجودهم على الدعم السوري.
عملية خلافة بشار الاسد لأبيه في الرئاسة السورية، حسب يونغ، فرضت اجراءات، منها تحييد بعض مراكز القوة من بين الحرس القديم السوري، وكذلك ابعاد سياسيين في لبنان واستبدالهم بعسكريين واتباعهم ممن لا يتمتعون بشعبية تذكر. هذه العملية دفعت بعض السياسيين اللبنانيين الى التمرد، فما كان من دمشق الا ان مارست المزيد من الضغوط والتهديدات بحقهم، تبع ذلك مقتل الحريري، وهو احد الاسباب الرئيسة التي ادى الى انفجار "انتفاضة الاستقلال".
يونغ يلتقط ببراعة المزاج الشعبي اللبناني المستاء من حكم سوريا للبنان في تلك الفترة، ويقول ان سياسيي "انتفاضة الاستقلال" حاولوا اللحاق بالفورة الشعبية، التي زادها تمردا توجه نصرالله الى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، في خطابه في ساحة رياض الصلح في 8 آذار 2005، بالقول ان عليه ان يستمع لرأي الاكثرية المتجمهرة يومها، وان يتراجع عن دعمه للقرار 1559. ويقول يونغ ان تباهي "حزب الله" باكثريته هو ما دفع العدد الهائل الى ساحة الشهداء في 14 آذار من العام نفسه.
ويستدرك يونغ ليشير الى الهزيمة التي الحقها التحالف الذي قاده "حزب الله" بحق تحالف "انتفاضة الاستقلال"، ويقول ان الفورة الشعبية الاستقلالية كانت كافية لفرض تغييرات معينة، منها اجبار دمشق على سحب جيشها. الا ان النظام الطائفي اللبناني يقدم مساحة لبروز مفكرين ليبراليين ومطالبين بالديموقراطية، ويفرض في الوقت نفسه شللا على اداء الحكومة اللبنانية السياسي والامني ويعطل فرص الاصلاح والتقدم، وهو ما سمح لسوريا وحلفائها في لبنان بشن هجوم مضاد. ويكتب يونغ ان النظام الطائفي الذي سمح لتحالف "حزب الله" بتعطيل الجمهورية والفوز عليها هو نفسه الذي منع الحزب من السيطرة على لبنان بشكل كامل.
يونغ يستفيض، وباسلوب شيق، في وصفه للاحداث وتعليل اسبابها، مثل الاسباب الكامنة خلف اندلاع حرب تموز 2006 التي تبعتها محاولة "حزب الله"، حسب الكاتب، توجيه غضب مناصريه من الطائفة الشيعية ممن تكبدوا خسائر فادحة في الارواح والممتلكات اثناء الحرب، ضد التحالف الاستقلالي وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
كذلك، يتطرق يونغ الى التحقيق الدولي ونشوء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ويقدم تقويماً لاداء كل من المحققين من الالماني ديتليف ميليس، الى البلجيكي سيرج براميريتز، فالكندي دانيال بيلمار، ويتحدث عن مقابلات اجراها مع ميليس وتجاربه – كصحافي لبناني – مع المحققين الآخرين.
في الختام، يدرك يونغ ان فصول كتابه لم تكتمل بعد، اذ ما زالت تأثيرات الاحداث التي كتب عنها تتفاعل في الوقت الحاضر، فيما قد يكشف المستقبل امورا قد تطور من تصورنا لكيفية حدوث الاحداث الماضية.
محاولة يونغ تدوين جزء من التاريخ اللبناني ضرورية، ومع الاسف شبه يتيمة، على امل ان تتبعها محاولات مشابهة اخرى.
(صحافي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق