حسين عبدالحسين
على مدى الأيام العشرة الماضية، قتلت مقاتلات روسيا والرئيس السوري بشار الأسد ٢٣٥ حلبياً، أي بمعدل ٢٣ سورياً في اليوم.
لو تسبب أي حادث بتقل ٢٣ هولندياً أو كندياً أو نيوزلندياً، لكان الاعلام الغربي قطع برامجه وانتقل الى تغطية عاجلة على مدار الساعة. مثلاً، الهجوم الارهابي الذي نفذه الاخوان الشيشانيان تيمورلنك وجوهر تسارنايف ضد سباق ماراثون بوسطن في العام ٢٠١٣، أودى بحياة ثلاثة: أميركيان، واحد منهما عمره ثمانية أعوام، فضلاً عن سائحة صينية. وقتذاك، استمرت تغطية هجوم بوسطن ٤٨ ساعة متواصلة، وتستمر حتى اليوم تغطية وقائع محاكمة جوهر تسارنايف، ترافقها تغطية إعلامية لقصص الناجين من الجرحى.
لكن في حلب، يتملص الاعلام الاميركي من مسؤوليته الاخلاقية القاضية بالاضاءة على مجازر الأسد، التي تحصد أرواح المدنيين في بيوتهم. حتى عندما يتظاهر السوريون الاميركيون امام البيت الابيض، ويصدف وجود اكبر تغطية صحافية بسبب العشاء السنوي لمراسلي البيت الابيض في فندق مجاور، تحصر الصحافة الاميركية تغطيتها بالخطابين الضاحكين اللذين ادلى بهما الرئيس باراك أوباما، والكوميدي لاري ويلمور، ويصبح مشهد العشاء المذكور على الشكل التالي: في الخارج سوريون يصرخون للتعبير عن أسى الحلبيين ويأسهم، وفي الداخل أكبر حشد صحافي وسياسي أميركي يقهقه ضاحكاً، فيما تنقل شبكات الاعلام أحداث العشاء الفاخر على الهواء مباشرة.
في بوسطن في العام ٢٠١٣، كان الهجوم ارهابياً والضحايا مدنيين أبرياء. أما مجازر حلب، فشأن سياسي: لقاءات في جنيف برعاية الأمم المتحدة، تصريحات من المسؤولين الاميركيين حول حل سياسي مزعوم، وجدال في "لجنة الشؤون المسلحة في مجلس الشيوخ"، الاسبوع الماضي، تنطح خلاله السناتور الديموقراطي تيم كاين ليعارض ارسال أوباما ٢٥٠ مستشاراً عسكريا الى سوريا، بحجة ان ذلك يتجاوز "سيادة حكومة الجمهورية العربية السورية".
ثم تطل صحيفة "نيويورك تايمز"، التي تعلن نفسها ضمير الانسانية والتي تثور ثائرتها اسبوعيا لأن السعوديات لا تقدن سيارات. ترسل الصحيفة مدير مكتبها في القاهرة ديكان والش لزيارة حلب، فيصلها ويعرب عن عجبه، معتبراً انه على الرغم من غارات الأسد المتواصلة، بدت الحياة في حلب وكأنها طبيعية: أولاد خارجون من مدارسهم وهم يلعبون، شرطي ينظم السير، ومتسوقون يجولون في الاسواق.
في مقالته التي تحمل عنوان "على الأرض في سوريا، دماء تسيل، وبؤس وأمل"، يعطي والش القراء انطباعاً وكأنه زار مناطق النزاع، فوجد الحياة طبيعية على الرغم من الحرب. والأهم انه رأى "أملاً".
لكن تفاصيل مقالة والش تظهر نفاقه، إذ هو يكتب ان الناس في حلب بدوا "وكأن لديهم مناعة غريبة ضد أصوات الانفجارات في الخلفية". وكلمة خلفية هنا تشي بأن والش لم يزر مناطق حلب التي تتعرض فعلياً لمجازر الأسد، بل زار مناطق النظام التي تتمتع بالهدوء، ووجد فيها الحياة طبيعية على الرغم من اصوات الانفجارات الآتية من مناطق أخرى.
ربما هي تعليمات المحررين لوالش انهم يرغبون في تغطية حول الحرب في حلب، مختلفة عن تلك المتوفرة عبر وكالات الانباء العالمية. ولأن وكالات الانباء تنقل صور الدمار والضحايا في الاحياء المعارضة لنظام الأسد، نقل والش صورة "الحياة الطبيعية" في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد، وعاد ليكتب مقالة يتحدث فيها عن "الأمل في حلب" عموماً.
تغطية والش تشبه ما كتبه في الماضي الاسرائيليان زئيف شيف وايهود يعاري في كتابهما عن الاجتياح الاسرائيلي للبنان. يقول الصحافيان انه مع بلوغ القوات الاسرائيلية خلدة، ساد العجب عند رؤية الاسرائيليين اللبنانيات بالبيكيني يتمتعن بأشعة الشمس على الشاطئ. ولا شك ان الحياة كانت طبيعية لدى حكام بيروت وعائلاتهم واقاربهم واصدقائهم، وكذلك في بيروت الشرقية، وهو ما رآه على الارجح الاسرائيليان ودوّناه. لكن من يذكر بيروت الغربية في العام ١٩٨٢، يذكر أنه من لم يمت بصواريخ المقاتلات الاسرائيلية مات من جوع الحصار.
على الأقل في حصار بيروت، نشرت مجلة "تايم" الاميركية، التي كانت ماتزال تتمتع ببعض المصداقية، صورة بيروت الغربية تحترق على غلافها. اما في حالة حلب، فصحيفة "نيويورك تايمز" ترى الحياة طبيعية، وهو تقرير لن ينساه الحلبيون بعد زوال شدتهم يوماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق