حسين عبدالحسين
بعد سنوات من اصرار الرئيس الاميركي باراك اوباما على أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين سيتوصل الى استنتاج مشابه للرؤية الاميركية حول سوريا، والقائلة باستحالة الحسم العسكري واقتصار الحل على تسوية سياسية تقضي بمشاركة الحكم السوري بين الافرقاء المتحاربين، يبدو أن فريق الرئيس الاميركي ادرك في الاشهر القليلة المتبقية له في الحكم أن بوتين لم يحد عن هدفه الأوحد منذ اندلاع الثورة السورية في العام ٢٠١١، وهو التمسك بالأسد حاكماً أوحد في دمشق.
في الاشهر القليلة التي تلت الثورة السورية والقمع الدموي الذي تعرضت له على ايدي قوات الرئيس السوري بشار الأسد، والقوات المتحالفة معها، اعلنت موسكو موقفاً مفاده انها تحترم سيادة "الجمهورية العربية السورية" وتدعو كل الدول لعدم التدخل بشأن سوريا الداخلي، اي الوقوف والتفرج بينما تدك مدفعية الأسد ومقاتلاته بيوت السوريين فوق رؤوسهم.
لكن بعدما ظهر أن مقاتلي المعارضة السورية كانوا في طريقهم الى تحقيق انتصارهم على الأسد مع حلول منتصف العام ٢٠١٢، انقلب موقف المسؤولين الروس، الذين فاجأوا في حينه نظراءهم الأميركيين — مثل فرد هوف وروبرت فورد — بقبول موسكو "التدخل" في سوريا، وقدموا بالاشتراك مع الاميركيين رؤية تقضي بقيام هيئة حكم انتقالية سورية بصلاحيات تنفيذية كاملة. هكذا ولدت وثيقة جنيف التي اعتبر فيها الروس انهم انتصروا باجبارهم الاميركيين على التخلي عن رحيل الأسد كشرط للحل، فيما اعتقد الاميركيون انهم حققوا مكسباً بتغيير الموقف الروسي من السيادة المطلقة للأسد الى قبول تدخل دولي يشرف على مرحلة ما بعد الأسد.
وتحولت وثيقة جنيف حول سوريا، مثل كل قرارات الامم المتحدة حول فلسطين، الى ألاعيب كلامية وتلاعب في الالفاظ التي تلتف بغموض يسمح لكل طرف معني تفسيرها على هواه. كما تحولت وثيقة جنيف الى نموذج الديبلوملسية السفسطائية التي تم تكرارها مرارا في جنيف وفيينا، وتم تكريسها في قرار مجلس الأمن رقم 2254.
ومنذ مطلع العام، سعت ادارة اوباما الى "إنجاز" ديبلوماسي جديد في سوريا تضيفه الى ما تعتقده انجازاتها الديبلوماسية الاخرى مثل الاتفاقية النووية مع ايران، فزار وزير الخارجية جون كيري موسكو، والتقى بوتين، واكد له جدية الاميركيين في التوصل الى حل، في وقت اعتقد الاميركيون ان اعلان بوتين انسحابه من الحرب السورية يؤكد صحة اعتقاد اوباما ان روسيا ادركت ان سوريا هي مستنقع عسكري وتسعى للخروج منها والعمل مع اميركا ديبلوماسياً لتأمين هذا المخرج.
هكذا، وبينما كانت "مجموعة دعم سوريا" تلتقي والامم المتحدة تجري مفاوضات، راح الروس والاميركيون يعقدون لقاءات بعيدة عن الانظار للتباحث في الأزمة السورية، وقادها مستشار بوتين اليكس لافرينييف، ومسؤول شؤون الشرق الاوسط في مجلس الأمن القومي الاميركي روبرت مالي، وتمحورت حول التوصل الى مسودة دستور سوري جديد يوافق عليها الطرفان ثم يقومان بتسويقها لدى حلفائهما، عملا باعتقاد بوتين انه وواشنطن يمسكان بكل خيوط اللعبة السورية، كما في وثيقة جنيف.
في المفاوضات الروسية الاميركية، وافق الاميركيون على أن الدساتير والقرارات الدولية لا تتضمن اسماء اشخاص، لذا يجب ابقاء الأسد خارج اي قرار، لكنهم سعوا الى استبدال نظام سوريا الرئاسي الحالي بآخر برلماني، واناطة السلطات التنفيذية بحكومة وحدة وطنية، وتحويل منصب رئاسة الجمهورية الى منصب فخري كما في العراق ولبنان.
لكن يبدو أن بوتين يحب الدول على شاكلة دولته التي يختصرها بشخصه، مع برلمان شكلي وحكومة لا تحكم. في الحالة السورية، أراد الروس ابقاء الاجهزة الامنية الاربعة والجيش في أيدي رئيس الجمهورية، وإدخال معارضين في حكومة وحدة وطنية. حتى المعارضين، كان لموسكو تحفظات على معظمهم باستثناء اصدقائها واصدقاء القاهرة من المحسوبين على المعارضة.
والانتقال في سوريا، حسب ما تراه موسكو، يبدأ مع الأسد، ويحصل بإشرافه، ويؤدي الى بقائه حاكماً أوحد، وكل ذلك يحصل من دون تسميته لأن ذلك ينافي البروتوكول الديبلوماسي. فقط المجموعات المسلحة والمعارضين ممن لا تتفق معهم موسكو يمكن تسميتهم ووضع فيتوات على مشاركتهم في الحكم.
في الاشهر الاخيرة من عمرها، ادركت ادارة أوباما ان بوتين مازال على موقفه المتمسك بالأسد والرافض لمشاركة الحكم في سوريا منذ اليوم الاول، لذا صارت اقصى طموحاتها تقضي بتثبيت الهدنة وادخال المساعدات الانسانية الى المناطق المنكوبة، التي يبدو أن الأسد فطن لأهميتها في الاعاقة الديبلوماسية، فعمل على زيادة عددها.
أدرك فريق أوباما، وإن متأخرا، أن روسيا والأسد وايران لا يريدون تسوية جامعة في سوريا. لذا، صار هدف أوباما تسليم الملف السوري كما هو الى من سيخلفه. أوباما يعتقد نفسه نفد من ورطة سوريا لكن حكم التاريخ سيكون عليه اقسى بكثير مما يتصور. أما روسيا، فستتمسك بالأسد وبرفضها مشاركته الحكم مع أحد، من خصومه أم من حلفائه، وستنظر الى رئيس اميركا المقبل حتى تتلاعب به بالطريقة نفسها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق