حسين عبدالحسين
يسود اعتقاد خاطئ مفاده أن الرئيس المنتخب جو بايدن سينتهج سياسة خارجية تتناقض وسياسة الرئيس دونالد ترامب، خصوصا تجاه إيران، وأن طهران والميليشيات المتحالفة معها في المنطقة ستنتعش كثيرا بحلول بايدن مكان ترامب في البيت الأبيض.
لكن حتى نتوقع سياسة بايدن تجاه إيران بدقة، علينا أن نفهم أولا سياسة الولايات المتحدة تجاه نظام طهران، وهي سياسة مبنية على مواجهة الايرانيين في أمرين: وقف سعي الملالي لصناعة أسلحة نووية، وكبح نشاطاتهم المزعزعة للاستقرار في المنطقة. ويوم عقدت مجموعة "خمسة زائد واحد" مفاوضات مع ايران في بغداد في أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2012 مفاوضات في بغداد، وكانت الثورة السورية ضد الرئيس السوري بشار الأسد في ذروتها، فاجأ رئيس الوفد الايراني سعيد جليلي الوفود الدولية بالقول، "ماذا عن سوريا؟" فأجاب المفاوضون الدوليون أن تعليماتهم هي للتفاوض حول ملف ايران النووي حصرا.
كانت ايران تعتقد أن المفاوضات مع كبرى العواصم ستكون مقايضة بين النووي وسياسات طهران الاقليمية، لكن الفصل الذي جرى عفويا في بغداد استغلته طهران لمقايضة برنامجها النووي برفع العقوبات الدولية، بدون التطرق لما تسميها الولايات المتحدة "نشاطات ايران المزعزعة للاستقرار في المنطقة". ورأى الرئيس السابق باراك أوباما في فصل المسارين فرصة أفضل للتوصل لاتفاقية نووية، وهكذا كان. اتفق العالم مع إيران على الموضوع النووي، واتفقت إيران والعالم على ترك سياسات إيران الاقليمية جانبا، وهو ما أدى الى قيام العالم وأميركا برفع العقوبات المرتبطة بالنووي الايراني، من دون أن ترفع أميركا العقوبات المرتبطة برعاية طهران للإرهاب.
أعتقد أوباما أن رفع العقوبات عن إيران سيؤدي لانغماس نظامها في الاقتصاد الدولي، وأن كسب المال سيشغل الملالي عن رعاية الارهاب، لكن حدث عكس ما توقعه أوباما بالضبط: أخذت إيران الأرصدة التي فكّ عنها العالم التجميد، والتي بلغت قيمتها أكثر من 100 مليار دولار، وراحت تمول بها ميليشياتها وحروبها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتمول عمليات اغتيال معارضين ايرانيين يعيشون في المنفى في دول أوروبية.
وعندما تسلم الرئيس دونالد ترامب الحكم مطلع 2017، لم ينسحب فورا من الاتفاقية النووية مع إيران، بل طلب من الأوروبيين القيام بوساطة لتحويل كل البنود التي تنتهي صلاحيتها في الاتفاقية الى بنود دائمة، مقابل بقاء الاتفاقية وأميركا فيها. لكن إيران أساءت التقدير، واعتقدت أنه ان انسحبت أميركا وحدها وبقيت أوروبا والصين وروسيا في الاتفاقية، فان العقوبات الاحادية الأميركية لن تؤثر، ليتبين أن دول العالم كلها لا تؤثر أمام العقوبات الأميركية، التي فرضت انهيارا شاملا على الاقتصاد الايراني.
فضلا عن اعادته العقوبات، لم يربط ترامب بين تسوية جديدة مع إيران والملف النووي حصرا، بل هو مضى يفرض عشرات العقوبات ضد إيران لرعايتها الارهاب، وادرجت واشنطن "الحرس الثوري الإيراني" على لائحة التنظيمات الارهابية، واستند ترامب الى قانون العقوبات على "حزب الله" اللبناني — وهو قانون وقعه أوباما في كانون الأول (ديسمبر) 2015، أي بعد توقيع الاتفاقية النووية مع إيران بشهرين — لزيادة العقوبات على "حزب الله" وحلفائه اللبنانيين.
مسؤول السياسة الخارجية في حملة بايدن الرئاسية هو جايك سوليفان، وهو الذي طار مع وكيل وزارة الخارجية السابق بيل بيرنز الى مسقط لإجراء المفاوضات السرية مع إيران، وهي المفاوضات التي أدت للتوصل للاتفاقية النووية. سوليفان هذا نشر مقالات متعددة، وقعها مع بيرنز، وأشار فيها الرجلان الى أن على أميركا العودة للاتفاقية النووية مع إيران، ولكن ليس بالشكل الذي كانت عليه عشية اقرارها مطلع 2016، بل أن واشنطن ستطلب تغييرات، وهو ما يتطلب مفاوضات.
لكن إيران تدرك أن الاتفاقية كانت انتصارا لها، وهو انتصار لا ترغب في التفريط به، لذا أصرّت أن أي مفاوضات لتعديل الاتفاقية لا تنعقد إلا بشرط رفع بايدن مسبقا لكل عقوبات ترامب، وهو أمر من غير المرجح أن يقوم به بايدن لأن عقوبات ترامب ترتبط بالإرهاب، وهذا موضوع منفصل عن النووي الايراني.
وفي الحسابات الايرانية مشكلة، اذ أن طهران راحت تتنصل من بنود الاتفاقية النووية لاستفزاز أميركا، لكن ان تنصلت طهران من الاتفاقية بشكل كامل، تقضي عليها، وتخرج منها دول أوروبا وروسيا والصين وتعود العقوبات الدولية في مجلس الأمن، وان التزمت طهران الاتفاقية، لا حافز لواشنطن للعودة عليها، وهذا ما يعني أن الولايات المتحدة هي في موقع قوي، اذ ان الاتفاقية ماتزال تقيد النووي الايراني مع المجتمع الدولي، بدون أن تقيد أميركا التي أدت عقوباتها الى شلل الاقتصاد الايراني.
في لبنان، تنصب السياسة الأميركية — مع أوباما أو ترامب أو بايدن — على دعم دولة لبنان في التخلص من تحكم ميليشيا "حزب الله" بها، وسياسة أميركا في العراق مشابهة، بغض النظر عن هوية الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، والمطلوب هو أن تحلّ هذه التنظيمات ميليشياتها العسكرية وتتحول أحزابا سياسة حصرا، وما لم يحدث ذلك، لا تغيير في سياسة واشنطن تجاه هذين البلدين، بغض النظر عن من هو الرئيس الأميركي.
يوم سيجلس بايدن على مكتبه الرئاسي للبحث مع أركان إدارته في الموضوع الايراني، لن يكون الموضوع النووي داهما، ولن تكون أميركا في عجلة من أمرها لرفع عقوبات الإرهاب عن إيران ما لم تتخل إيران عن رعاية الارهاب فعليا، وهذا موضوع يبدو مستحيلا اذ هو يناقض سبب وجود وكيان النظام الايراني.
بايدن وسوليفان وبيرنز يدركون أن واشنطن هي في موقع القوة، وأن طهران في موقع الضعف، وأنه لا حاجة للعودة الى الاتفاقية النووية بشكلها الحالي، فتجربة أوباما — القائلة بأن إيران دولة عاقلة وان اعادتها الى الاقتصاد الدولي يغير من طبيعة نظامها المزعزع للاستقرار في المنطقة والعالم — تجربة أثبتت فشلها. ربما حتى لو عاد الزمن بأوباما، لن يعود هو نفسه للاتفاقية العرجاء مع الايرانيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق