حسين عبدالحسين
يعد إعلان السلطة الفلسطينية إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الربيع والصيف تطورا ايجابيا، بل فرصة ذهبية، على شرط أن ينجح الفلسطينيون في استغلالها.
الزميل عريب الرنتاوي أشار إلى عدد من العقبات اللوجستية، وهذه يمكن تذليلها بسهولة نسبيا، والسماح للفلسطينيين في الداخل وحول العالم بالاقتراع، وكل ما يحتاجه الناخب الفلسطيني في الخارج إبراز أي نوع من الأوراق الانتدابية أو الصادرة عن الأونروا، على غرار ما فعل عراقيو المهجر ممن اقترعوا في أكثر من دورة انتخابية، كان منها للمصادقة على الدستور الحالي. هذا في الشكل.
أما في المضمون، أشار الرنتاوي إلى تخوف إقليمي من انتصار انتخابي للمجموعات الإرهابية، أي حماس و"الجهاد الاسلامي"، وتحدث عن جهود لتوحيد جناحي "فتح" التابعين للرئيس محمود عبّاس ولمحمد دحلان، وربما تحالفهما مع المسؤول السابق مروان البرغوتي، المسجون في إسرائيل، وهو ما من شأنه تأمين انتصار فتح، المعتدلة، على متطرفي الإسلام السياسي. ثم يمكن للحكومة الفلسطينية المقبلة الانخراط في مفاوضات مع إسرائيل، برعاية أميركية ودولية، للتوصل إلى حل الدولتين.
لكن الانتخابات على الطريقة العربية القبلية المعروفة — أي جناح فلان وأزلامه مع جناح فلان ضد خصومهما — هو سباق من قبيل الثرثرة السياسية، فيما المطلوب هو أن يقدم المرشحون الفلسطينيون أفكارا جديدة وخططا واضحة لتحقيق قيام دولة فلسطينية.
في العقل الجماعي الفلسطيني، كما العربي، تقوم إسرائيل باحتلال أراض فلسطينية وحكم الفلسطينيين عسكريا لإذلالهم، وترحيلهم، وانتزاع أراضيهم منهم، وقد ينطبق هذا التصور العربي على بعض متطرفي إسرائيل، لكنه لا يمثل الغالبية، ولا حتى أقلية ذات وزن.
من يتابع بموضوعية النقاش داخل إسرائيل، يمكنه التوصل إلى الاستنتاجات التالية، أولا: إن موقف اليسار الإسرائيلي مطابق تماما للخطاب الفلسطيني، وهو أحد أسباب ضعف اليسار شعبيا، فضلا عن ضعفه المرتبط بتراجع دور الاتحادات العمالية ونفوذها السياسي في كل دول العالم. ثانيا: اليمين الإسرائيلي الحاكم متلهف للانفصال عن الفلسطينيين، وإنهاء حكم إسرائيل العسكري عليهم. غالبية اليمين الاسرائيلي تسعى لحل دولتين، لا حبا بالفلسطينيين، بل طمعا في الحفاظ على الهوية اليهودية لدولة اسرائيل.
هكذا تتكرر دعوات اليمين الإسرائيلي للانسحاب من حياة الفلسطينيين، مثل ما ورد في كتاب ميكا غودمان "عقدة 67" الذائع الصيت، قبل عامين، أو في مقالة جنرال الاستخبارات المتقاعد، موردخاي كيدار، في صحيفة "ماكور ريشون" اليمينية، قبل أسبوعين.
اليمين الإسرائيلي يدعو للانسحاب من الضفة الغربية وتسهيل حياة الفلسطينيين وحكمهم أنفسهم، مع الإبقاء على وجود عسكري إسرائيلي في مناطق غير مأهولة في غور الأردن وعلى رؤوس التلال المطلة على الساحل، وذلك لأسباب عسكرية دفاعية استراتيجية. ويمكن لإسرائيل تعويض الفلسطينيين عن هذه الأراضي بأراض في مواقع إسرائيلية أخرى مجاورة للضفة.
والحال هذه، ما المطلوب من الفلسطينيين للحصول على دولتهم؟ غالبية مسؤولي وخبراء العالم والفلسطينيين ينغمسون عادة في تفاصيل تقنية حول السيادة والمياه واللاجئين، ويعتبرون أن هذه عقبات يستحيل تسويتها، ما يجعل قيام فلسطين وسلامها مع اسرائيل أمرا مستحيلا. لكن ما يشغل الإسرائيليين هو غير ذلك.
إسرائيل التي يسعى إليها الإسرائيليون — بعد توقيعهم السلام مع الفلسطينيين — هي دولة أحادية القومية، تشبه الدولة الفلسطينية الأحادية القومية التي يسعى إليها الفلسطينيون أنفسهم في جوار إسرائيل.
مبدأ الدولة الأحادية القومية ليس فريدا من نوعه، وهو نقيض دولة مثل الولايات المتحدة المتعددة الاثنيات، والتي ترى نفسها "بوتقة انصهار" لكل من يوافق على تبني المبادئ المؤسسة لها. فرنسا وهولندا، مثلا، من الدول الأحادية القومية، أي أنه لا يمكن لأي مهاجر أن ينال الجنسية الفرنسية دون أن يتعلم اللغة الفرنسية، أو دون أن يتبنى علمانية الدولة وأساطيرها المؤسسة. ولا متسع في فرنسا لقوميات غير فرنسية، ومثلها في إسبانيا، التي تسعى للحفاظ على قومية أحادية، متخيلة في الغالب، فيما تطالب الإثنيات غير الإسبانية، مثل الكاتالان أو الباسك، اما بحكم ذاتي أو بالانفصال.
في فلسطين، حبذا لو يلمع نجم مرشحين ممن يدركون أن أسرع طريقة لقيام دولة فلسطين العربية هو الإسراع في تكريس يهودية دولة إسرائيل، وممن يدركون أن أسرع طريقة للاقتراب من السيادة الفلسطينية هو شعور الإسرائيليين أن أي دولة فلسطينية سيدة ومستقلة ستكون حليفا وثيقا لإسرائيل، تشترك معها في المصالح والمستقبل.
إذ من غير الممكن أن نتخيل أن يقبل الإسرائيليون قيام دولة فلسطينية مستقلة مجاورة ومعادية، تسمح مثلا بزيارة زعيم "حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله، أو المسؤولين الإيرانيين إليها، فهؤلاء يدعون للقضاء على إسرائيل، وهو ما يعني أن زياراتهم لفلسطين ربما تكون استخباراتية عسكرية، هدفها تحويل فلسطين إلى قاعدة صواريخ إيرانية، كلبنان وسوريا، مُسلَّطة على رؤوس الإسرائيليين.
بكلام آخر، أمام الفلسطينيين فرصة لانتخاب قادة يحملون خطابا جديدا عن السلام، خطاب يسعى إلى تأكيد أن الفلسطينيين ودولتهم سيدافعون عن إسرائيل وأمنها ومستقبلها كدولة يهودية، وهذا خطاب يضمن الفوز بقلوب الإسرائيليين، ويدفعهم لتسهيل قيام دولة فلسطين العربية المتحالفة مع إسرائيل.
أما العودة إلى نفس الخطاب الخشبي القومي العربي، المبني على خذ دولة فلسطين وطالب بمشاركة اليهود إسرائيل، فخطاب لا ينطلي على الإسرائيليين، وسيحافظ على ريبة الإسرائيليين من الفلسطينيين ونواياهم تجاه الدولة العبرية، وسيدفعهم إلى مواصلة استخدام القوة العسكرية لمنع الفلسطينيين من تهديد إسرائيل عسكريا أو أمنيا.
إن قيام دولة فلسطين يتطلب سلام كل فلسطيني مع نفسه أولا، وتجاوز محن الماضي — نكبات ونكسات وانتفاضات — ومسامحة الإسرائيليين، وطلب السماح منهم، وإقامة صداقة معهم، وكسب ثقتهم وودهم. هكذا يكون السلام، في القلوب أولا، وفي المحافل الدولية ثانيا، وفي دولة فلسطين أخيرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق