الثلاثاء، 9 فبراير 2021

وداعا يا حبيبي يا لقمان

حسين عبدالحسين

هذه من أصعب المقالات التي أكتبها. الحزن يحجب الخيال فتصعب الكتابة. الدموع تملأ العينين فتصعب الرؤية. الأصابع ترتجف فتحيل الحزن غضبا. لم أخل أني سأرثي لقمان يوما. في آخر مرة تقابلنا كنا في تونس مؤتمرين حول الحريات برعاية "الحرة" و"معهد الولايات المتحدة للسلام". كان الصباح. ملأت صحني فطورا ونظرت Nلى الحديقة، رأيت لقمان. كان جالسا يرتشف قهوته ويدخّن. جلست جانبه بدون استئذان. كنا صديقين منذ أكثر من عقد. 

في رحلاتي إلى بيروت، كما في زياراته إلى واشنطن، كنا نلتقي دوريا، في غرفة فندقه، في المطاعم، في المؤتمرات. حدث أن تزاملنا في مؤتمر في مدينة نيو أورلينز الجنوبية، وخرجنا ليلا نستمتع بموسيقى الجاز، ونتعشى، وكان معنا مكرم وعبدالرحمن. لقمان يختلف عمن نسميهم ناشطين أو سياسيين، فهو مثقف من أرفع طراز، موسوعي في معلوماته، يتحدث بطلاقة بثلاث لغات. عندما يستمع، يندر أن ترى تعابير على وجهه. عندما يفكر، يبتسم، تعرف أن لقمان تلقف فكرة وينتظر حتى يعلّق عليها.

في كل سنوات صداقتنا اتفقنا فكريا بشكل تام، حول أفكار عصر التنوير، حول الحرية الفردية والعامة، حول الديموقراطية والحكومة التمثيلية، حول العدالة الاجتماعية، حول الثقافة كمؤشر رقي ونهضة. لكننا اختلفنا أيضا.

لقمان كان ناشطا شجاعا. على الرغم من محدودية موارده، كان يسعى لتأمين التمويل أينما وجده، وكان يستخدم التمويل للتوثيق، لدعم دراسات وأبحاث طلاب دراسات عليا حول الذاكرة الشفهية، ولإنتاج أفلام.

لم تستهوه الحزبية ولا الأحزاب، ولم ير نفسه زعيما أو شخصية سياسية، وكان مؤمنا بأن التغيير يبدأ فكريا وثقافيا. أما أنا، فكنت، ومازلت، جبانا. لم أعد ناشطا منذ سنواتي الجامعية. راهنت على الديموقراطية العراقية، فكان فشلها لي كمثل النكبة عند العرب. جمعت ما تبقى مني، وهاجرت. صرت أميركيا. لم أعد أتابع السياسة اللبنانية الضيقة، فقط أؤيد الحرية أو الديموقراطية أينما رأيتهما. لكل منا خياراته.

لم يكن لقمان يبحث عن ناشطين يوزعون مناشير أو يتظاهرون أو يصفقون. كان يبحث عمن يمكنهم المساهمة في نهضة كان يحلم بها. كنا الاثنين من مؤيدي الأنظمة المدنية التي لا تراعي أي توزيع إثني أو طائفي. لكن لقمان أدرك أنه إن أردنا التغيير، فعلينا أن نراعي بعض قواعد اللعبة، أي أن نتعامل مع الطائفة الشيعية على أننا منها.

"تحالف 14 آذار" اللبناني، الذي كان معارضا لميليشيا "حزب الله" ونفوذ إيران في لبنان، كان من نفس طينة النظام اللبناني السيء، الذي يتعامل مع الطوائف، حصريا، ولا يتعامل مع الأفراد على أنهم مواطنون. هكذا عندما انخرط شيعةٌ لبنانيون معارضون لميليشيا "حزب الله" في "تحالف 14 آذار"، كانت تجربتهم سيئة، إذ أن التحالف المذكور أرادهم أن ينضموا إليه بصفتهم مجموعة شيعية، لا كأفراد مستقلين يناصرون الديموقراطية وسيادة الدولة ونزع سلاح الميليشيا. 

بعد فشل ديموقراطية العراق، ومثلها فشل ديموقراطية لبنان بالتزامن مع مقتل العزيز سمير قصير، حاولت الابتعاد عن السياسة في دنيا العرب، وركّزت كتاباتي على شؤون أميركا وسياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط. أرادني لقمان أن أبقى مهتما بالشأن اللبناني. قال لي مرارا أن أبواب شيعة لبنان مفتوحة في وجهينا أكثر من غير الشيعة.

نحن نعرف الطائفة، نعرف أساطيرها وتقاليدها ومزاجها ولهجاتها. هناك شيعة كثيرون يشاركوننا أفكارنا، لكنهم يتعرضون لضغوطات من عائلاتهم ومجتمعاتهم وقراهم تحرّم عليهم الخروج عن التمسك الشيعي القبلي بـ "حزب الله" وإيران. يمكننا أن نقوّي من عزمهم عندما يرون أن منهم من خرج على الإجماع وتبنى رأيا مستقلا. يمكننا أن نحضنهم، وأن نساعدهم في بناء أنفسهم خارج سطوة الطائفة والحزب.

رأيت، منى تمر، في بهو الفندق وخلتها في طريقها للانضمام إلينا. قلت للقمان: ستكتمل عصابتكم "شيعة السفارة"، أي السفارة الأميركية، وهي التسمية التي يطلقها "حزب الله" على معارضيه الشيعة للانتقاص من وطنيتهم. فقال لي: أو أنت لست من "شيعة السفارة"؟ فأجبته ضاحكا أني "أنا السفارة نفسها"، لأني أميركي وأسكن في واشنطن. 

انفتح الباب إلى الحديقة. هذه ليست منى. هذا هشام. "صباح الخير"، قال لنا. رديت التحية، وتوجهت للقمان بالقول: "هذا صديقي الدكتور هشام الهاشمي، من أعتى مؤيدي الديموقراطية في العراق". ثم توجهت إلى هشام: "لقمان سليم، من بيروت". ثم بادرني هشام بالقول إن صديقنا المشترك سرمد أخبره أن المؤرخ العراقي جواد علي هو "جدي". تدخل لقمان: "خلته شقيق جدّك". فأجبته أن العراقيين يسمون الجد وأشقاء الجد "جدي". 

ثم سألت هشام عن سرمد. قال لي "انهزم". سرمد من العقول العراقية المستنيرة، لجأ إلى شمال العراق هربا من الديموقراطية الميليشياوية التي تفرضها إيران في بغداد. ضحك لقمان، وقال لي "هذا مثلك"، فأجبته أن "(مصطلح) 'انهزم' بالعراقي تعني 'هرب'، وأنا هربت أكثر من سرمد، أنا هاجرت“. ثم دعوت كل من لقمان وهشام إلى الهجرة. ابتسم لقمان ابتسامته الساخرة المعروفة. أما هشام، فقال: "يا معوّد، العراق بلدنا وخليهم يولّون (يرحلون)".

قال هشام تأخرنا على الباص إلى المؤتمر. كنت ما زلت منهمكا في صحن الفول. قلت له: "أنهي وألتحق بك، لا تدعهم يمشون بدوننا". راح هشام. أنهيت فطوري. وقفت وقلت للقمان "يالله"، قال لي: "اسبقني جاية، هلق (الآن) ولعتها (السيجارة)".

في فترة الغذاء، لم نجتمع على الطاولة. كنت أنا مع عقول عربية مستنيرة أخرى، نيرفانا وسناء ومنصور، الذي كان يرتدي بفخر زي تشاد التقليدي. أخبرنا منصور أنه خرج في الليلة السابقة يتمشى، ورسم لنا انطباعاته حول ردود فعل التونسيين تجاهه والفارق في التمييز العرقي العنصري بين المدن العربية والأميركية. خرجنا من المطعم، ووقفنا على رأس الدرج، صاح منصور، "صورة"، التفت إلى جانبي، رأيت هشام، التفت إلى أسفل الدرج، كان لقمان، صحت له وناولته تلفوني، ووقفنا جميعا، فصورنا لقمان، وكان هشام في الصورة.

قتلوا هشام، ثم قتلوا لقمان، وقتلوا الأمل في قلبي. يوم قتلوا سمير قصير، صممت أني لن أدع موته يذهب سدى. ترجمت مقالاته العربية إلى الإنكليزية، وأقمنا له موقعا على الإنترنت. بعد 16 عاما على اغتيال سمير، لم يتحقق حلمه، ولم تأت الديموقراطية، بل كان المزيد من الموت والصواريخ والاغتيالات. هذه المرة، سأصمت، وسأنتظر زوال الطغيان وملاليه وظلامهم الذي أطفأ سمير وهشام ولقمان وكل شموع الديموقراطية والحرية والحياة.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008