الثلاثاء، 23 فبراير 2021

فلسطين في أيام بداية الصهيونية

حسين عبدالحسين

خلافا لما يتصور بعض العرب اليوم، لم تكن فلسطين دولة قائمة تعيش في رغد قبل أن يفد إليها المهاجرون الصهاينة، بل كانت محافظات عثمانية زراعية قليلة الموارد، أجبرت ناسها — على غرار أقرانهم في لبنان وسوريا — على الهجرة إلى دنيا الله الواسعة، طلبا للرزق والحياة الكريمة.

وفلسطين هذه كانت قاحلة لا تقيت ناسها، ومحرومة من معظم أسباب الحضارة، وذلك حسب محمد روحي الخالدي، المولود في القدس عام 1864، والذي أتقن التركية والفرنسية، وهاجر إلى القسطنطينية، وصار قنصلا عثمانيا في بوردو الفرنسية، وعضوا في مجلس المبعوثان التركي، قبل أن يتوفى سنة 1913. 

في هذا النص الثمين، المنشور لأول مرة، يتحدث الخالدي عن "يافا وحيفا ودمشق والقسطنطينية وغيرها من مدن الممالك العثمانية"، ولكنه في نفس الوقت يبدي سخطا على السلطان عبدالحميد، الذي استقبل مؤسس الصهيونية ثيودور هيرتزل ومنحه وساما مجيديا، وكاد السلطان أن يمنح هيرتزل فلسطين امتيازا مقابل مال كثير، لولا تصدى له عزت باشا العابد، المعروف بعرب عزت. 

وكتب الخالدي، في وصف العثمانيين، أنه "لا يكاد أحدهم يسمع بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة حتى يطير قلبه فرحا ويعمى بصره وبصيرته عن حب الوطن ومنفعة الأمة ومصلحة الإسلام والمسلمين".

والفساد العثماني نفسه سمح بتدفق اليهود على الرغم من الأوامر المعاكسة. يقول الخالدي إن "نظارة الخارجية العثمانية (أصدرت) أوامرها بأن لا يمنح اليهود الأجانب حق الدخول إلى فلسطين إلا بعد أخذ سند منهم يتعهدون فيه بالخروج من الأراضي المقدسة قبل انقضاء ثلاثة شهور من تاريخ وصولهم". ويضيف: "غير أن هذا التدبير لم يفد إذ اتخذه المأمورون واسطة للرشوة والغش ولم يمنع اليهود من التوطن في فلسطين".

آراء الخالدي المعادية للسامية ظاهرة، مثل في قوله إن "في أيدي اليهود ثلث ثروة العالم مع قلة عددهم"، لكن إعجابه واضح بتنظيم الحركة الصهيونية، وتفاني اليهود، ووعيهم، وإقامتهم حكومة حتى بدون أرض، وإقامتهم مصارف تسليف للزراعة في المستوطنات، ولسكن المهاجرين، وصناديق تعاونية للاستثمار. 

في هذا السياق، يقول الخالدي: "ترى أفقر اليهود في روسيا ورومانيا يقتر على أولاده وعياله ويوفر من أجرته اليومية ومكسبه الزهيد ليدفع الشاقل السنوي للجمعيات الصهيونية". ويقارن الفلاحين اليهود بنظرائهم الفلسطينيين، فيقول إن المستعمرين يوفرون "من وارداتهم وأجورهم هذه المبالغ ويضعوها في ذلك الصندوق" لضمان صحة الماشية، "بخلاف الفلاحين في قرانا، إن توافر مع أحدهم خمسة غروش، خزقه وعلقه على رأس زوجته مصاغا لها أو اشترى به حليا آخر".

ويشير إلى أن المؤسسات الصهيونية شيّدت بنايات سكنية وباعت شققها بالتقسيط لليهود المهاجرين، حتى انتشرت هذه المجمعات السكنية في محيط القدس، وصارت "اليوم تزيد على أصل المدينة المحاطة بالسور بأربعة أو خمسة" أضعاف.

ويستغرب الخالدي السبب الذي يدفع الصهاينة إلى الهجرة لأراضي فلسطين القاحلة والمحرومة. ويقول إن "هجرة اليهود إلى فلسطين لا تقع في الغالب إلا من أوروبا الشرقية، لما هم فيه من الذل والمسكنة". ويضيف: "إما القاطنون منهم في ممالك أوروبا الغربية فهم متنعمون بالحرية والمساواة وقابضون على زمام المالية والتجارة فلا يخطر ببالهم ترك مرابحهم والتوطن في أراضي فلسطين القاحلة والمحرومة من معظم أسباب الحضارة". 

كما يستغرب الخالدي إصرار اليهود على تعليم أولادهم العبرية بدلا من الفرنسية، ويقول إن "فلسطين لا تستطيع أن تقيت رجالها"، وأنه الأجدر للرجل اليهودي أن يفيد "من المعارف الفرنساوية للحصول على قوته في البلاد الأخرى".

ويبدو أن التفوق التنظيمي لدى الصهاينة دفع الفلاحين الفلسطينيين إلى بيع أراضيهم لليهود والعمل عليها بأجور أفضل من التي كان يدفعها الملاكون من الوجهاء والاقطاعيين، وهؤلاء بدورهم كانوا يعيشون بعيدا عن الأرض والفلاحين. 

يقول الخالدي: "الفلاحون وأهل القرى يشتغلون عند اليهود بأجرة تفوق ما كان يعطيها لهم المتنفذون في البلاد". ويضيف أن اليهود علموا الفلاحين الفلسطينيين "فنون الزراعة الجديدة"، فكانت المستوطنات "أحسن زراعة من القرى"، ويستطرد القول إن "سياسة الصهيونيين (هي) تشويق الحكومة لاضطهاد كبراء البلاد وأشارفها وإذلالهم، والتسبب في انقراضهم، ثم الاستيلاء على أفكار الفلاحين البسطاء ووضعهم تحت سلطتهم المالية واستخدامهم في زراعة أراضيهم التي يمتلكونها قرية بعد قرية".

ويستعرض الخالدي ثلاثين مستعمرة يهودية، ويقول إن مجموع مساحتها بلغت 280 كيلومترا مربعا، وأن الصهاينة اشتروها من مالكين لبنانيين، مثل عائلات تويني وسرسق ومدوّر، كما من الفلاحين والبلديات. ومن يعرف شؤون لبنان، قد يعرف أن بعض الأراضي، على الجهة اللبنانية من الحدود مع إسرائيل، ما تزال سنداتها تشير إلى أنها ملك الوكالة اليهودية. 

بعد "الاحتلال العثماني"، أقام "الاستعمار الفرنسي" في سوريا ولبنان حكومتين، فيما أقامت بريطانيا حكومتين في العراق والأردن، ولكنها لم تقم دولة في فلسطين. ربما لهذا السبب تعذر على الفلسطينيين استنباط هوية قومية مستقلة عن عثمانيتهم، على غرار ما فعل جيرانهم، فجاءت ردود فعلهم ضد الهجرة اليهودية على شكل عثماني أولا، ثم قومي عربي ناصري ثانيا، إلى يوم هزيمة 1967 واعلان الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر "حرب الاستنزاف"، ورعايته نشوء قومية فلسطينية مع ميليشياتها المسلحة. ثم صهرت المواجهة مع إسرائيل هذه الهوية الفلسطينية، فصار الفلسطينيون الأكثر استخدما لعبارة "شعبنا الفلسطيني". ولأن البريطانيين لم يقيموا دولة للفلسطينيين، رحلوا، فملأت دولة اليهود الفراغ، وتصدت لها دول عربية مجاورة، فكان الصراع العربي الإسرائيلي القائم حتى اليوم.

هو تاريخ معقد وغارق في الدعاية الحزبية والقبلية، لكن هذه العصبية لم تكن جلية بعد في زمن الخالدي، وهو ما يجعل نصه أكثر صدقا من معظم النصوص التي تلت، والتي لم تعد ترى فلسطين وإسرائيل، ولا عرب ويهود، بل صار كل ما تراه صراع وحرب، ومقاطعة وانتقام.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008