الثلاثاء، 16 فبراير 2021

"لبنان الجميل" أم "لبنان المقاوم"؟

حسين عبدالحسين

بادر أحد كتّاب الى التعليق على اغتيال الصديق لقمان سليم بالقول إنه مستعد لنقاش "لا حوار"، وأن النقاش قائم على "فكرة الخصومة والعداوة" بين فكرتين ومشروعين، كما عمد إلى استعادة تصريحات العزيز لقمان لإثبات "عمالته"، وهاجم اليسار اللبناني لأنه يتخيل ماضي لبنان على أنه "الزمن الجميل"، ويسعى للعودة اليه في رعاية غربية، وبمساندة رجال دين "من أسوأ ما عرفهم لبنان"، وهو في الغالب يقصد بطريرك الموارنة بشارة الراعي، الداعي للعودة الى لبنان ما قبل اتفاق القاهرة للعام 1969، أي ما قبل انتشار الميليشيات المسلحة الفلسطينية - وخليفتها اللبنانية القائمة حتى اليوم - على أراضيه.

الصورة التي قدمها الكاتب في غاية الدقة، فالانقسام هو بين نموذجين: واحد يدعو للعودة الى لبنان ما قبل 1969، والى الحياد في الصراعات الدولية والإقليمية، وللعودة الى المجتمع الدولي كدولة ديموقراطية سيدة وقادرة، وثانٍ يفرض نموذج "الدولة المقاومة"، المبني على المزاوجة بين حكم فعلي في أيدي ميليشيا وقائدها، وحكم شكلي في أيدي دولة صدئة ومهترئة وفاسدة، وهو ما يستنسخ النموذج الإيراني، حيث الحكم الفعلي في أيدي "المرشد" و"الحرس"، فيما الدولة شكلية.

المشكلة تكمن في أن الكاتب لا يحتمل التباين في الرأي، ويخال أن رأيه هو الوحيد الصحيح والوطني، وأن آراء معارضيه خيانة موصوفة، وأن لا بأس في أن يكون الاغتيال مصير من يتبنونها، وهذا مذهب مبني على نظرية تحريضية أطلقها أحد الميليشياويين الفلسطينيين في لبنان، وقال فيها أنه يخشى "أن تصبح الخيانة وجهة نظر". والخيانة هنا ليست الخيانة الوطنية بمعنى الجاسوسية، أو إفشاء الأسرار القومية والوطنية لحكومات أو جيوش معادية، بل اختلاف في الرأي، والدعوة الى الاستسلام في حرب لا يمكن الانتصار فيها، أو المصالحة في حرب لا آخر لها.

والجاسوسية متعذرة على من هم من أمثال لقمان، إذ هي تشترط أن يكون الجاسوس من أهل البيت، أو كما يحلو للبنانيين وصفها بـ "بيئة المقاومة"، أي أنه إن أرادت أن تعرف إسرائيل مواقع أسلحة "حزب الله" أو أماكن تنقل قادته، فهي ستحتاج الى عملاء من داخل صفوف الحزب، لا من خصوم الحزب ممن لا يمكنهم الاقتراب من أسراره.

ومن عجائب "محور الممانعة" أنه في وقت يثني العالم - عبر التاريخ - على السلام بكل أشكاله، ويعتبر أن الداعين اليه هم أصحاب الموقف الأكثر أخلاقية، يرى "محور الممانعة" في السلام خيانة وتخاذل.

لم يستحِ لقمان بمجاهرته بالدعوة للسلام، ومثله فعل الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي أرسل وزير خارجيته، نائب الرئيس اليوم، فاروق الشرع، لتمضية خلوة في منتجع كامب ديفيد الرئاسي الأميركي مع رئيس حكومة اسرائيل السابق إيهود باراك. رفع الأسد يومذاك شعار "الأرض مقابل السلام". أما الأرض التي طالب بها الأسد، فكانت هضبة الجولان، ولم يربط سلامه بأي شؤون فلسطينية، فتلك كان يفاوض عليها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في ما سمّاه "سلام الشجعان"، الذي لم يعرقله احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني يومها. لم يفاوض الأسد ولا عرفات إسرائيل لاستعادة جنوب لبنان، فلماذا يتمسك لبنان بالعداء لإسرائيل، بعد انسحابها من أراضيه، بسبب جولان سوريا أو أراضي الفلسطينيين؟

لم يقل لقمان في الغرف المقفلة ما لم يقله في العلن، وهو رجا العواصم الغربية الأخذ برأي اللبنانيين، ونشر ثقافة الديموقراطية بينهم، فالمغدور الراحل كان يعلم أن إسرائيل وعواصم العالم تنحاز للاستقرار على حساب الديموقراطية، المقرونة اليوم بالفوضى الأمنية. ومن هذا القبيل، فضّلت إسرائيل بقاء رئيس سوريا بشار الأسد على الانهيار الكامل، وكذلك في لبنان، حيث تخلّت الولايات المتحدة، في زمن الرئيس السابق جورج بوش الابن، عن دعم قرار كانت اتخذته حكومة لبنان المنتخبة، وحضتها على التنازل عنه لمصلحة "حزب الله" في اتفاق الدوحة. أما في زمن الرئيس السابق باراك أوباما، فكان مؤيدو إيران والأسد في الادارة أكثر من أن يحصوا، بعضهم بدوافع "انهاء الكولونيالية" و"نصرة الجنوب العالمي"، وبعضهم لاعتقادهم أن الشعوب العربية قاصرة ولا تفهم الديموقراطية، وأن الديكتاتورية هي الاستقرار.

هكذا قابل ستيفن سايمون، عضو مجلس الأمن القومي السابق، الرئيس السوري بشار الأسد في 2015، فيما دعا زميله في المجلس وصديقه فيليب غوردون (اليوم يعمل نائب مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس كمالا هاريس) الى الحوار مع الأسد. أما روب مالي، صديق سايمون وغوردون وزميلهما في مجلس الأمن القومي في زمن أوباما، فهو سبق أن قابل الأسد في 2008، وكان صديقاً لسفيره في واشنطن. ويتولى مالي منصب مبعوث ايران في الادارة الحالية.

يوم اجتاح "حزب الله" لبنان في 7 أيار (مايو) 2008، كان لقمان في واشنطن، وراح يستجدي ادارة بوش لعدم التخلي عن دعم الديموقراطية في لبنان، أو تسليمه للأسد أو لإيران بداعي الاستقرار. لم يطلب لقمان أسلحة أو تمويل ميليشيا أو حرب أو اغتيالات. كل ما طالب به هو دعم ثقافة الديموقراطية ونشرها، ودعم المجتمع المدني، حتى يعي اللبنانيون العلاقة بين مواقفهم السياسية ومصالحهم الاقتصادية، وكي يدركوا أنه يستحيل التمسك بالعداء الدائم لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تحقيق نمو اقتصادي لبناني، فلكل موقف سياسي ثمن في الاقتصاد.

لا يقدم الكاتب "المقاوم" أي نظريات في السياسة أو الاقتصاد غير الشعارات الشعبوية وتخوين أصحاب الرأي المغاير، لكنه لو كان يعرف كيف تكون سياسات الدول الناجحة، مثل ألمانيا أو كوريا الجنوبية اللتين تستضيفان قواعد عسكرية أميركية، لأدرك أن لبنان في فترة حياده، بين 1949 و1969، عاش زمناً ذهبياً بلغ فيه نموه الاقتصادي معدلات قياسية، وانخفضت معدلات الفقر الى أدنى مستوياتها، وراجت مشاريع التنمية - من سد الليطاني الى انشاء "الضمان الوطني الاجتماعي" والانفاق على البنية التحتية - في وقت كانت باقي الدول العربية تعيش نكسات عسكرية واقتصادية تشبه الانتصارات الإلهية اللبنانية اليوم.

"لبنان الجميل" الذي حلم به لقمان، والذي يدعو اليه البطريرك الراعي، هو مثل كوريا الجنوبية، و"لبنان المقاوم" هو مثل كوريا الشمالية، والاختيار في أيدي اللبنانيين، هذا لو سمح لهم "حزب الله" الاختيار يوماً، من دون التخوين والاغتيال.

لقمان و"حزب الله" لم يكونا "فكرتين ومشروعين"، بل هو فكر مقابل بندقية. الفكر يمكنه الفوز بأغلبية ومشروعية للحكم، أما البندقية والاغتيالات، فاستعاضة عن ضعف الفكرة بالاستبداد. الكاتب محق أن مقالته ليست حواراً، اذ إن الحوار يكون كلمة سواء، لا كلمة مقابل اغتيال. لقمان كان الكلام، واغتياله لم ينهِ الكلام، فالفكرة لا تقتلها ست رصاصات.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008