واشنطن - حسين عبدالحسين
شهد الناتج المحلي للاقتصاد الأميركي، على رغم تقلصه في الربع الأول من العام الحالي، نمواً قوياً في الربعين الثاني والثالث للمرة الأولى منذ 2002، وترافق ذلك مع بيانات إيجابية متعددة تصدرتها بيانات سوق العمل التي حققت نمواً قياسياً، إذ أوجدت أكثر من 300 ألف وظيفة جديدة الشهر الماضي، بعد 55 شهراً متواصلة من إيجاد الوظائف، وهو رقم قياسي كذلك.
وترافق النمو الأميركي، المتوقع أن يقفل على معدل ثلاثة في المئة هذا العام، متجاوزاً معدل اثنين في المئة المسجل على مدى العقد الماضي، مع انخفاض معدل البطالة إلى 5.8 في المئة، وهو الأدنى منذ ما قبل الانهيار المالي في خريف 2008. وترافق النمو مع بيانات إيجابية أخرى، منها ارتفاع كبير في حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة داخل الولايات المتحدة، وتضاعف حجم الصادرات الصناعية الأميركية مقارنة بعام 2009، وانخفاض طفيف في العجز التجاري، وانخفاض العجز السنوي للموازنة إلى ثلث ما كان عليه في 2010، وتباطؤ نمو الدين العام الذي قارب 18 تريليون دولار.
تشاؤم اليمين وتفاؤل اليسار
أما الأسباب التي أعادت أميركا إلى الصدارة كأبرز قوة اقتصادية في العالم، في وقت تعاني أوروبا الركود واليابان الانكماش والصين تباطؤ النمو، فمتعددة ويختلف الخبراء الأميركيون حولها.
مجموعة الآراء الاقتصادية الأميركية، خصوصاً الصادرة عن الحزب الجمهوري اليميني ومسؤوليه ومراكز البحوث المؤيدة له، تعاني اليوم أزمة في صدقيتها، فالجمهوريين حذروا من أن إقرار «قانون الرعاية الصحية» من شأنه أن «يقتل سوق العمل والوظائف» في وقت تشهد هذه السوق نمواً قياسياً بعد عام على دخول القانون حيز التنفيذ. كذلك أخطأ خبراء الاقتصاد اليمينيون في التهويل بفداحة ارتفاع الدين العام وتأثير ذلك سلباً في النمو السنوي للناتج المحلي، إذ إن ارتفاع الدين لم يظهر حتى الآن أي انعكاس يذكر على النمو.
في الجهة اليسارية المقابلة، أي عند الرئيس باراك أوباما وحزبه الديموقراطي ومؤيديه من الخبراء والإعلاميين، نوع من الزهو ومحاولة إثبات الرأي وصحة السياسات التي صارت تنعكس نمواً وقاربت أن تسمح للاقتصاد الأميركي بتحقيق «سرعة الهرب»، وهي عبارة يستخدمها الأميركيون للدلالة على نمو اقتصادي صلب ومتواصل. ويضيف أهل اليسار أن قانون «الرعاية الصحية» ساهم في الإبطاء من نمو الفاتورة الصحية للبلاد، والتي ينعكس نموها سلباً على النمو الاقتصادي. كذلك يعتقد اليساريون أن سبب تباطؤ النهضة الاقتصادية الأميركية بعد ركود 2008، كان بسبب سياسات الجمهوريين التعطيلية والمطالبة بتقليص الإنفاق الحكومي، حتى أثناء الركود. ويعتقد اليساريون أنه لو قيِّض للحكومة الفيديرالية الإنفاق في شكل أكبر، لنجحت في تقليص فترة الركود والتباطؤ الذي تلاها.
على أن الطرفين يجمعان على بعض الظروف التي ساهمت في انفلات الاقتصاد الأميركي من عقال نموه البطيء، وهذه العوامل تتصدرها طفرة الغاز الصخري الذي دفع الولايات المتحدة إلى المركز الأول في إنتاج الطاقة في العالم. وساهم نمو هذا القطاع في انخفاض سعر الطاقة، في وقت يعتقد الخبراء أن كل انخفاض يبلغ 10 دولارات من السعر العالمي لبرميل النفط يساهم في إضافة نصف نقطة مئوية إلى نمو الناتج المحلي.
وساهمت عودة مصافي النفط الأميركية إلى نشاطها بعودة عدد من الصناعات البتروكيماوية إلى الولايات المتحدة، بعدما هجرتها على مدى العقود القليلة الماضية. وجرّت هذه الصناعات معها صناعات أخرى، ساهمت كلها في إيجاد مزيد من الوظائف، وساهمت السيولة في أيدي الناس في زيادة الاستهلاك، وساهمت زيادة الطلب في مزيد من الاستثمارات ومزيد من الوظائف، وهكذا دواليك، تحولت الدورة الاقتصادية من خاملة ومتباطئة إلى نشيطة ومتسارعة.
دور أسعار الطاقة
ومع أن انخفاض سعر الطاقة عالمياً قد يهدد القطاع الصخري ويجعل من أرباحه غير كافية لاستمراره، إلا أن الولايات المتحدة تجد نفسها بين خيارين، كلاهما إيجابي، فانخفاض السعر العالمي للطاقة، حتى لو أدى إلى تعليق إنتاج الطاقة الصخرية الأميركية، سيؤدي حتماً إلى انتعاش اقتصادي أميركي. أما إن عادت أسعار الطاقة العالمية إلى الصعود، فتمكن آنذاك إعادة تشغيل القطاع الصخري الذي يساهم أيضاً في لجم ارتفاع الأسعار. وهذا يعني أن الولايات المتحدة تجد نفسها في منأى من تقلبات أسعار الطاقة عالمياً، ويمكنها الإفادة في الحالتين: صعود السعر العالمي أو هبوطه.
وإلى الطاقة الصخرية، يعتقد الخبراء الأميركيون أن مجلس الاحتياط الفيديرالي ساهم في شكل واسع في دفع الاقتصاد الأميركي إلى الأمام، فمصرف أميركا المركزي وضع 13 تريليون دولار من النقد بتصرف المؤسسات المصرفية والمالية منذ اليوم الأول للركود الكبير في 15 أيلول (سبتمبر) 2008. وفي وقت لاحق، عمد المصرف إلى ضخ مزيد من النقد عبر برامج الحفز التي اختتمها أخيراً، في وقت تبحث أوروبا، وفي شكل متأخر عن الأميركيين، في وضع برامج حفز نقدية لإنقاذ منطقة اليورو وتفادي الانكماش.
وفي حال حقق الاقتصاد الأميركي «سرعة الهرب»، يمكن إذّاك مجلس الاحتياط البحث في رفع الفائدة مع حلول الصيف المقبل، وهو ما يعيد إلى المصرف الأدوات المطلوبة لمواجهة أي أزمة مستقبلية.
السبب الأخير للصعود الأميركي يتمثل في نجاح الكونغرس في تقديم ديون إلى الشركات الأميركية الكبرى لمنعها من الانهيار. وفي وقت لاحق، أظهرت المؤسسة الأميركية الحاكمة أن انقساماتها الحزبية لم تجعل الولايات المتحدة تتخلف يوماً عن تسديد ديونها، ما عزز الثقة في النظام المالي الأميركي وجعله ملجأ للأموال حول العالم، خصوصاً تلك الهاربة من اقتصاد روسيا المحاصر والمتهاوي ومن الصين المتباطئة.
على أن الطامة الكبرى للديموقراطيين تكمن في أن النهضة الاقتصادية حصلت وهم في الحكم، لكنهم لم ينجحوا في ترجمتها إلى انتصار شعبي أو انتخابي، فخسروا مجلس الشيوخ، ما أعطى الكونغرس بغرفتيه إلى الجمهوريين الذين حصلوا بذلك على وزن أكبر لفرض رؤيتهم الاقتصادية على أوباما وحزبه.
لكن السنتين المتبقيتين من حكم أوباما في ظل كونغرس جمهوري لن تكونا سيئتين بالضرورة، إذ إن واحدة من مرتكزات خطته الاقتصادية قد يكون أسهل تحقيقها مع الجمهوريين، وهي معاهدتا التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي ودول غرب المحيط الهادئ وأستراليا.
عام 2014 كان فأله حسناً على الأميركيين واقتصادهم، ويتوقع الخبراء مزيداً من التعافي والنمو لأكبر اقتصاد في العالم في العامين المقبلين. أما إذا نجح أوباما في استكمال سلسلة إصلاحاته بالتعاون مع الجمهوريين، فذلك سيعزز الثقة أكثر وسيعطي الاقتصاد الأميركي فرصة أكبر للبقاء في صدارة اقتصادات العالم في المستقبل المنظور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق