حسين عبدالحسين
لم تكد تمر ساعات على الغارة الإسرائيلية في القنيطرة السورية، التي أدت الى مقتل مجموعة من قياديي "حزب الله" وإيران، حتى أبلغت الحكومة الإسرائيلية إدارة الرئيس باراك أوباما انها لا تنوي التصعيد، وأنها لم تكن تعرف ان جنرالا إيرانيا رفيع المستوى في عداد القتلى.
ومسارعة الإسرائيليين للاتصال بالأميركيين لم يكن بالضرورة خوفا من مواجهة عسكرية مسلحة مع الإيرانيين وحلفائهم، بل بسبب ضرورات التحالف والصداقة بين تل ابيب وواشنطن، فإسرائيل سبق ان تعهدت لأميركا بإعطاء الديبلوماسية مع إيران فرصة، ما يقتضي حكما عدم قيام الإسرائيليين بأي تصعيد عسكري مع الإيرانيين من شأنه ان يعرقل المفاوضات.
بدورها، تلقفت واشنطن التأكيدات الإسرائيلية حول عدم نية التصعيد مع إيران، وسارعت الى الاتصال بالمسؤولين الإيرانيين عبر القنوات المفتوحة بين الاثنين منذ أكثر من سنة ونصف. وشدد الأميركيون للإيرانيين ان مقتل جنرالهم محمد علي الله دادي في الغارة الإسرائيلية كان عن طريق الخطأ. وحث الأميركيون الإيرانيين على تجاوز الأمر، وعلى عدم إعطاء الأوامر لحلفائهم بالرد.
هنا تتضارب التقارير الواردة من داخل أروقة الإدارة الأميركية، لكن غالبية المقربين من الإدارة يعتقدون ان المسؤولين الاميركيين سمعوا من نظرائهم الإيرانيين تأكيدات ان طهران "لا تنوي التصعيد كذلك"، وهو ما نقله الاميركيون للإسرائيليين، واعتبر الأمر بمثابة المنتهي.
لكن "حزب الله" فاجأ الجيش الإسرائيلي، الذي يبدو انه لم يرفع حالة التأهب، ربما بسبب الاعتقاد ان الأمر قد طوي مع الإيرانيين. على ان عدم الرغبة الإيرانية بالتصعيد تأكدت اثناء احجام "حزب الله"، على إثر استهدافه دورية إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا، عن الرد على الرد الإسرائيلي "الموضعي".
فالجيش الإسرائيلي رد على مقتل اثنين من جنوده بهجوم مدفعي في الموقع المحيط للهجوم، فيما التزم "حزب الله الصمت" عسكريا. هكذا، فهمت إسرائيل ان رد "حزب الله" على غارة القنيطرة انتهى عمليا، ما منع تل ابيب من ارسال مقاتلاتها في السماء اللبنانية لضرب المزيد من اهداف الحزب في العمق اللبناني، على جاري العادة في المواجهات التي تطورت الى حروب مفتوحة في الماضي.
اما سبب "ابتلاع إسرائيل" مقتل اثنين من جنودها من دون الرد فمرده الى ان الإسرائيليين، حسبما ينقل عنهم مسؤولون أميركيون، لم يروا سقفا سياسيا للتصعيد ضد "حزب الله"، اذ ان أي تصعيد إسرائيلي غير الرد الموضعي كان سيجبر الحزب اللبناني على الرد بدوره، وهكذا يدخل الطرفان في حلقة من الردود تتطور الى حرب لا هدف لها. كذلك، لا سقف سياسياً يمكن ان تطلبه إسرائيل في مقابل وقف ضرباتها الموجعة في العمق اللبناني، فيما تعرف إسرائيل – منذ زمن – ان تفوقها العسكري ليس قادرا على اجبار "حزب الله" اللبناني على التوقف عن استهداف الداخل الاسرائيلي.
هكذا، في الساعات الأولى التي تلت هجوم "حزب الله"، لم يبد المسؤولون الاميركيون قلقا يذكر من تصعيد بين الطرفين، بل حثوا جميع الأطراف على ضبط النفس، وكأن الاميركيين كانوا يعرفون مسبقا ان الأمور لا تتجه نحو التصعيد.
هذه المواجهة المحسوبة وشبه المتفق عليها بين إيران وإسرائيل ليست الأولى من نوعها، فعلى إثر شن إسرائيل ما أسمته عملية "عناقيد الغضب" ضد لبنان في العام 1996، توصل "حزب الله" وإسرائيل الى ما عرف لاحقا بـ "تفاهم نيسان"، الذي قضى بتنظيم الحرب بين الحزب وإسرائيل، التي كانت تحتل الجنوب اللبناني. وقضى التفاهم بامتناع الحزب عن استهداف الداخل الإسرائيلي، وحصر ضرباته بالأهداف العسكرية التابعة للقوات الإسرائيلية المحتلة وميليشيتها الحليفة التي كانت تعرف بـ "جيش لبنان الجنوبي". بدورها، إلتزمت إسرائيل بعدم الاغارة على اهداف في العمق اللبناني.
وأشرف على تنفيذ "اتفاق نيسان" لجنة بعضوية سوريا وإسرائيل والجيش اللبناني وفرنسا والولايات المتحدة. وبعد التحرير في أيار 2000، حاول "حزب الله" الإبقاء على "اتفاق نيسان" محصورا في منطقة مزارع شبعا، المتنازع على سيادتها بين لبنان وسوريا. الا ان حرب 2006 استبدلت "اتفاقية نيسان" بقرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي فرض هدوءاً تاماً على كل الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. وبين 2006 و2015، لم تشهد الجبهة اللبنانية مع إسرائيل الا اختراقات محدودة، منها ما أدى الى مقتل مقدم في الجيش الإسرائيلي، ولكن الردود الإسرائيلية بقيت محدودة وموضوعية، وهو الترتيب الذي يبدو ان إسرائيل آثرت الالتزام به بعد هجوم الحزب الأخير.
ويعتقد بعض المسؤولين الاميركيين ان اختيار "حزب الله" لمنطقة المزارع دلالة بالغة، فهو بذلك أكد للإسرائيليين ان لا نية إيرانية بتوسيع نشاط الحزب ليغطي الجولان السوري.
هكذا، رد "حزب الله"، القادر أصلا على القيام برد أكبر بكثير من الذي قام به، على الغارة الإسرائيلية في القنيطرة. وهكذا، ابتلعت إسرائيل مقتل اثنين من جنودها، مقابل حفظ ماء الوجه للإيرانيين والحزب اللبناني. وهكذا، تستمر المفاوضات بين أميركا وإيران، وتبقى الأمور على ما هي عليه حتى اشعار آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق