حسين عبدالحسين
في يناير 1980، حاول محررو "المجلة" في عددها الأول التحري عن نوايا الولايات المتحدة، وكتبوا تحت عنوان "ماذا تخطط أميركا؟" أن واشنطن وضعت موضع التنفيذ "مبدأ كارتر"، الذي يقضي بإنشاء قوة تدخل بهدف إرسالها إلى مناطق غنية بالنفط كالخليج لحمايتها من أي تهديد سوفياتي، بعد عام من اجتياح السوفيات لأفغانستان.
اليوم، وبعدد 33 عاما، تحاول “المجلة” مرة أخرى أن ترصد النوايا الأميركية، ولكن على عكس العام 1980 و”مبدأ كارتر”، يبدو أن “مبدأ اوباما” يقضي بسحب الجيوش الأميركية، على الأقل من الشرق الأوسط وأوروبا، والتفرغ لشؤون البلاد الداخلية، في وسط مزاج شعبي أميركي عام يطالب بإنهاء الدور العسكري الذي تضخم جدا في العقد الأخير، والعودة إلى العزلة التي تفرضها الولايات المتحدة على نفسها بين حقبة وأخرى من تاريخها.
في هذ الإطار، رصدت “المجلة” عشرة أسباب تظهر أن أميركا هي في طور تقليص دورها العسكري حول العالم. هذه الأسباب، من دون تراتبية أو أهمية معينة، هي التالية:
• نهاية “الحرب على الإرهاب”
أثناء المناظرة الرئاسية الثالثة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وجه المرشح الجمهوري ميت رومني انتقادا لمنافسه باراك أوباما، لنيته خفض موازنة وزارة الدفاع، وقال رومني إن “البحرية الأميركية تحتاج إلى بوارج أكثر، إذ لديها 284 فقط، وهو الرقم الأدنى منذ العام 1916″، فأجابه الرئيس الأميركي: “طيب، يا حضرة المحافظ، ولدينا عدد أقل من الأحصنة والحراب كذلك، مما كان لدينا في الحرب العالمية الأولى”.
ويتزامن الحديث عن جعل القوات الأميركية أكثر رشاقة واعتمادا على التكنولوجيا، منها على عديد القوات، في وقت تعتزم الحكومة الأميركية تخفيض موازنتها العسكرية، التي تضخمت جدا منذ إعلانها “الحرب على الإرهاب” في عام 2001.
أولى بوادر التخفيض جاءت مع نهاية حرب العراق، ولا بد من أن الميزانية ستشهد المزيد من تقليص للنفقات مع قرب نهاية الحرب في افغانستان، مع ما يعني ذلك من تسريح لفائض الجنود العائدين من الحرب وتقليص عدد المشاة والبحرية.
وكان الانفاق العسكري الأميركي قد بلغ 711 بليون دولار سنويا في عام 2012، ومن المتوقع أن ينخفض إلى 500 بليون سنويا مع نهاية الأعمال العسكرية في افغانستان العام المقبل. وللمقارنة، فإن الموازنة الدفاعية في العام 2000 كانت 300 بليون سنويا، أي أنه حتى مع التخفيض، ستبقى الموازنة الأميركية الدفاعية المتوقعة في الأعوام المقبلة أكبر بحوالي الثلثين منها قبل 13 عاما.
وبلغة الاقتصاد، سيتراجع الانفاق الدفاعي من 4 ونصف في المائة من الناتج المحلي، إلى ثلاثة في المائة، وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم بها إدارة أميركية بتخفيض موازنتها الدفاعية، اذ سبق أن فعلت ذلك في الأربعينات مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم وبعد حربي كوريا وفيتنام، وفي التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، واليوم بعد نهاية “الحرب على الارهاب”، وحربي العراق وأفغانستان.
• تطور العلوم الحربية
“بعد عقد من الحرب في افغانستان والعراق، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام منعطف استراتيجي لا يختلف عن نهاية الحرب الباردة”، يقول الادميرال جوناثان غرينيرت، آمر البحرية الأميركية، في دراسة له في مجلة “اميريكان انتيريست” في فبراير (شباط) الماضي. مقتبسا من “التوجيه الاستراتيجي” الذي قدمه وزير الدفاع ليون بانيتا العام الماضي، واصبح بمثابة دليل سياسة الدفاع الأميركية للعقد المقبل، ان بانيتا تحدث عن ضرورة “تحويل القوة الأميركية الى قوة أصغر وأكثر ليونة”، وأن “تكون هذه القوة على جهوزية تامة، مع الحلفاء والشركاء، لمواجهة والحاق الهزيمة بأي عدوان في أي مكان حول العالم، خصوصا أولئك الذين يسعون إلى منعنا من تسليط قوتنا”.
في مقالته في “المجلة” قبل 33 عاما، كتب جون كولي من واشنطن “انه في عام 1979، بدأ التخطيط جديا لإنشاء قوة أميركية من 100 ألف جندي قادرة على التحرك والانتقال الى أي بقعة من العالم تتعرض فيها المصالح الأميركية للخطر”، وان “هذه القوة تحتاج الى خمس سنوات لاستكمال مقوماتها”، وان “كل 25 ألف جندي يحتاجون 16 يوما للانتقال الى المنطقة المهددة”. مضيفا: “حتى ذلك الحين، لا يمكن تخيل وجود أي مقاومة سريعة وجدية للقوات السوفياتية، إذا أرادت اجتياح بعض دول الخليج”.
بعد عقد على مقالة كولي، انهار الاتحاد السوفياتي وقواته من دون أن تقترب أي منها من الخليج، بيد أن قوات عراقية فعلت ما لم يفعله الروس، اذ اجتاح صدام حسين الكويت.
يقول غرينيرت إنه “في أقل من عشرة أيام على اجتياح الكويت، وصلت إلى شواطئها خمسة تشكيلات من المقاتلات الأميركية، وحاملتا طائرات، وبارجتان”، ويضيف انه بعد أسابيع، “كانت القوات الأميركية قد نقلت جوا أكثر من 500 ألف جندي، و540 الف طن حمولة، واوصلت بحرا مليونين ونصف المليون طن من المعدات”.
اليوم، تقول القوات الأميركية ان بإمكانها التدخل في أي بقعة على وجه الأرض في أقل من 12 ساعة، وخوض حرب والفوز بها، وهذه السياسة الحربية هي التي يعمل على تطويرها الأميركيون منذ 33 عاما، وهي تعني ان واشنطن تعمل منذ عقود على تفادي احتلال اراض غير اميركية لفرض سلطتها، بيد أن حربي العراق وافغانستان، والاحتلال الذي رافقهما، شكلت استثناء فرضته مدرسة “المحافظين الجدد”، ولا يبدو أنه سيتكرر في المستقبل المنظور.
أما أفضل مثال لفهم التغيير في سياسة استخدام القوة الاميركية حول العالم، ونهاية عصر المشاة والاحتلال، قد يأتي من خلال مقارنة حربي العراق وافغانستان بحربي اميركا الخفية وغير المعلنة ضد “تنظيم القاعدة” في كل من باكستان واليمن. النتيجة في الحروب الأربع هي تصفية كوادر هذا التنظيم وقياداته، لكن بدلا من استخدام المشاة كما في افغانستان، تقتصر الحرب في اليمن على الطائرات من دون طيار، التي يديرها طيارون من داخل اميركا، والتي تحلق عاليا وبعيدا عن الأنظار، والتي صارت تثير ذعر أفراد التنظيم اكثر بكثير من دورية مارينز يمكن نصب كمين لها او مواجهتها.
• في أميركا نفط أيضا
يقول المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي في كتابه “تاريخ الجزيرة العربية” إن اميركا فازت في الحرب العالمية الثانية، لأنها كانت الوحيدة المكتفية ذاتيا لناحية حاجة جيشها الى النفط، فيما كانت القوات الألمانية تخوض حربا مصيرية ضد القوات السوفياتية للسيطرة على منابع النفط في محيط البحر الأسود.
اكتفاء أميركا بالنفط ذاتيا انتهى مع حلول عام 1952، ما جعل اميركا تخشى أن تسعى موسكو الى محاولة الاستيلاء على خزان الخليج النفطي، فتنجح بذلك بتعطيل القوة الاميركية الى حد بعيد، وهو ما ساهم الى حد كبير في اطلاق الحرب الباردة بين الجبارين.
كانت تلك مواجهة كلاسيكية بين قوتين عالميتين تتنافسان على مصادر الطاقة حول الأرض.
في عددها الأول قبل 33 عاما، كتب محررو “المجلة” ان السؤال هو: “ماذا تخطط اميركا؟ وكيف ولد مبدأ كارتر؟ وما هي احتمالات تطبيقه؟ ماذا تريد إدارة كارتر ان تفعل في تلك المنطقة الحساسة، وماذا تستطيع أن تفعل؟ ما هو حجم عزمها على التدخل عسكريا في المنطقة”.
ربط المحررون وقتذاك بين خطاب كارتر في حال الاتحاد في 1980 بتدخل عسكري محتمل لأميركا في الخليج. أما أبرز ما قاله كارتر في ذلك الخطاب فهو التالي: “خلال السنوات الثلاث الأخيرة، انضممتم الي لتحسين أمننا وآفاق السلام، ليس فقط في منطقة الخليج الحيوية والمنتجة للنفط، بل حول العالم”. ولم يخطأ محررو “المجلة” في تحليلاتهم وقتذاك، فالولايات المتحدة لم تستخدم جيوشها مثلا للتصدي للاجتياح السوفياتي لافغانستان، ربما لندرة النفط هناك، ولكن عندما اجتاح صدام حسين الكويت، وهي صاحبة احد اكبر احتياطات النفط في العالم، قامت اميركا ببناء تحالف دولي عريض، وحركت أساطيلها وجيوشها التي أجبرت قوات صدام على الانسحاب.
أما السؤال اليوم فهو: هل مازال الخليج العربي، ونفطه، يتمتعان بالأهمية الاستراتيجية نفسها في العقل الأميركي؟
في تقريرها للعام 2012، تقول “وكالة الطاقة الدولية” انه بسبب التقنية الجديدة التي ابتكرتها شركات اميركية لاستخراج الغاز والنفط، من المتوقع أن تصبح الولايات المتحدة الأولى في انتاج الغاز في العالم مع حلول العام 2016، والأولى في انتاج النفط في العالم، متقدمة حتى على المملكة العربية السعودية، مع حلول العام 2020.
وتظهر بيانات وزارة الطاقة الأميركية ان انتاج الولايات المتحدة النفطي ارتفع بنسبة 30 في المائة منذ عام 2008، ليصل الى 6.5 مليون برميل يوميا الشهر الحالي، وهو رقم مرتفع مقارنة بانتاج السعودية، الأولى في العالم حاليا، والذي يبلغ 9 ملايين و700 الف برميل في اليوم.
الأرقام تشير كذلك إلى أن الزيادة في الانتاج النفطي الأميركي في عام 2011 كانت الأعلى منذ أن تم اكتشاف هذه المادة للمرة الأولى في ولاية بنسلفانيا في عام 1859.
هكذا، للمرة الأولى منذ عام 1952، ستتمتع أميركا باكتفاء نفطي من المتوقع أن يستمر حتى عام 2035، ما سيعطي واشنطن ربع قرن من الاستقلالية في الطاقة، ويعفيها من السباق مع دول العالم الأخرى للوصول إلى الأسواق النفطية أو لمحاولة تثبيت الدول النفطية أمنيا وسياسيا، وهذا ما يعني اعتمادا أميركيا أقل على القوة العسكرية حول العالم.
“هذا يعطينا حرية أكثر للحديث عن الشرق الأوسط الذي نريد أن نراه، والعالم الذي نريد أن نراه”، يقول الرئيس باراك أوباما في مقابلة أجرتها معه مجلة “التايم” في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
• نهاية مفهوم القوة العظمى
يعتبر مؤرخون أن أحد أبرز أسباب نشوب الحرب العالمية الأولى، كان بسبب نجاح بريطانيا في إفشال مشروع المانيا بناء خط قطار برلين – بغداد، الذي كان من المفترض أن يصل إلى ميناء الكويت، وان يشكل طريقا تجاريا مختصرا بين الهند واوروبا، بدلا من الطريق البحرية التي تمر في قناة السويس، والتي كانت تحت سيطرة الانكليز.
في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان احتلال الاراضي والسيطرة على طرق التجارة ضروريا من أجل قيام الامبراطوريات ومن اجل حفاظها على قوتها وعلى سيطرتها على الأسواق وعلى مصادر المواد الأولية.
وفي النصف الثاني من القرن الماضي، تواجهت للسبب نفسه القوتان العظميان اميركا وروسيا في ما عرف بـ”الحرب الباردة”، والتي انتهت بفوز الاميركيين.
لكن اميركا لم تهزم الاتحاد السوفياتي عسكريا، ولا نفطيا، بل اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا، وهو ما تحول الى عنوان للمواجهة بين اميركا ومنافستها الامبراطورية المقبلة، اي الصين، التي تسعى الى اللحاق بالولايات المتحدة، خصوصا على الصعيدين الافتصادي والعلمي.
“إن اقتصادا قويا، ناميا، يؤمن الأساس لكل أدوات القوة. كذلك، الأدوات الاقتصادية كالعقوبات والمساعدات، ستكون حاسمة في هذا القرن لانها عادة اكثر الأدوات فاعلية من حيث كلفتها المنخفضة نسبيا”، يقول البروفسور في جامعة هارفرد جوزيف ناي في كتابه “مستقبل القوة”.
ويضيف الأكاديمي الأميركي، الذي ابتكر عبارة “القوة الناعمة”، أن “القوة الاقتصادية ستكون واحدة من اهم الأدوات في جعبة القوى الذكية” حول العالم.
داخل الولايات المتحدة، يندر أن يعثر الباحث على مقالة أو دراسة أو كتاب يحذر من القوة العسكرية الصينية الصاعدة أو من العقيدة الصينية السياسية، على غرار التحذيرات من قوة الاتحاد السوفياتي وتمدد الشيوعية حول العالم اثناء الحرب الباردة، بل تتركز التحذيرات حول مقارنات ثنائية بين البلدين، اميركا والصين، في المضامير الاقتصادية والثقافية والعلمية والأكاديمية.
والسباق الأبرز اليوم بين أميركا والصين، والذي يستحوز على معظم اهتمام الاميركيين، هو مطاردة الاقتصاد الصيني لنظيره الأميركي، الأكبر في العالم. وكانت الصين حلت محل اليابان كصاحبة ثاني اكبر اقتصاد في العالم في عام 2010، فيما تشير الترجيحات إلى أن الصين ستحل محل اميركا مع نهاية هذا العقد.
كذلك، تدور رحى السباق الاميركي الصيني حول عدد “براءات الاختراع” المسجلة في كل دولة، وحول حجم الموازنات السنوية المرصودة لـ”الأبحاث والتطوير”، في وقت تسعى الصين الى إرسال طلاب لتحصيل العلم في أميركا والعودة الى بلادهم، وتسعى في الوقت نفسه الى استقطاب الجامعات الأميركية العريقة لتفتح فروعا لها في الصين كخطوة اولى تسمح للصينيين بنسخ التفوق الأكاديمي والبحثي العلمي الأميركي، على غرار عملية النسخ التي قامت بها الصين لعدد كبير من الصناعات الأميركية على مدى العقدين المنصرمين.
ويبدو أن الرئيس باراك أوباما وادارته وفريق مستشاريه تنبهوا عموما لنوعية السباق مع الصينيين، فالقوة العظمى العالمية لم تعد تقاس بالقوة العسكرية وحدها، بل بقوة الاقتصاد والابتكارات، وهو ما دفع اوباما الى الاعلان، مبكرا، نيته الخوض في سباق ابتكار تقنيات الطاقة النظيفة والمتجددة قبل الصين، ما جعل حكومته تقدم اعفاءات ضريبية ومحفزات وضمانات قروض للشركات الاميركية، التي عملت على تطوير صناعة الطاقة البديلة.
• “إعادة تمحور” السياسة الخارجية
السباق الأميركي مع الصين لم يفرض على أميركا الالتفات الى شؤون الاقتصاد على حساب الدفاع بالمطلق، بل دفع أوباما وإدارته إلى تبني سياسة “إعادة التمحور” (بيفوت بالانكليزية). وبموجب هذه السياسة، يفترض ان تنقل الولايات المتحدة تركيزها من الشرق الأوسط الى الشرق الأدنى إدراكا من إدارة اوباما أن الصين هي القوة الصاعدة التي قد تشكل تهديدا على صدارة اميركا للعالم أو على المصالح الأميركية حول العالم.
هذا يعني، حسب المسؤولين الأميركيين، ان غرق اميركا في مستنقعات الشرق الأوسط فيما الصين تكرس هيمنتها على منطقة غرب آسيا هو ضرب من الجنون الاستراتيجي الذي يتطلب إعادة تصويب.
سياسة أوباما لإعادة التمحور مبنية على جزأين: الأول هو انهاء تورط اميركا في حروب شرق اوسطية، وهو ما حصل فعلا في العراق نهاية عام 2011، ومقرر أن يحدث في افغانستان مع نهاية العام المقبل. اما الجزء الثاني، فهو مبني على شبكة تحالفات تقيمها واشنطن مع معظم الدول المحيطة بالصين، والتي على الرغم من انها تتمتع بعلاقات تجارية ممتازة مع الصينيين، تشعر بالخوف من هيمنة صينية وتحاول تاليا مواجهتها بتحالف مع الأميركيين.
وفي اطار هذه التحالفات، تسعى ادارة اوباما الى توقيع معاهدة “الشراكة عبر الهادئ”، وهي اتفاقية تتمحور حول قيام سوق مشتركة، او اتفاقية تجارة حرة، تقترن باتفاقيات دفاع مشترك، وقد وقعت عليها تسع دول حتى الآن هي اميركا واستراليا، وبروناي وتشيلي ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام. وكانت باكورة هذه الاتفاقية اعلان واشنطن إنشاء قاعدة عسكرية يتمركز فيها 2500 عنصر من المارينز في استراليا.
وجاء الإعلان في وقت تتحدث واشنطن عن تخفيض نفقاتها العسكرية ووجودها في دول الشرق الأوسط، ما يعني أن أميركا لا تنوي تقليص دورها العسكري عالميا بشكل عام، بل تنوي على الأرجح نقل ثقلها من منطقة الى أخرى، على حسب تصريحات الرئيس الأميركي ومجموعة مساعديه.
ولأميركا اتفاقيات تجارة حرة ودفاع مشترك مع الدول ذات الاهمية الاستراتيجية في تلك المنطقة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، تضاف الى “الشراكة عبر الهادئ”. ومن المتوقع ان تعمل واشنطن على توسيع هذه الشراكة قدر الامكان، وهو ما يعطي الولايات المتحدة أفضلية استراتيجية واقتصادية وعسكرية كبيرة على الصين، في ملعب الأخيرة.
• انقسام النخبة
في عددها الأخير (ديسمبر/كانون الثاني – فبراير/شباط 2013)، نشرت مجلة “فورين افيرز” المرموقة مقالتين حول السياسة الخارجية. الأولى بقلم البروفسور اليساري في جامعة “ام آي تي” باري بوزن، حض فيه الولايات المتحدة على تبني سياسة خارجية تتناسب وواقعها الاقتصادي المستجد، المثقل بالديون، حيث تعدى الدين العام 16.5 ترليون دولار.
ويقول بوزن إنه من الأفضل لواشنطن أن تقوم بإعادة رسم سياستها بنفسها، بدلا من ان تفرض الظروف عليها ذلك، ويكتب: “اذا ما استمر دين الولايات المتحدة في النمو واستمرت القوة بالانتقال الى دول اخرى، قد تفرض أزمة اقتصادية أو سياسية مستقبلا على واشنطن تغيير سياستها (الخارجية) فجأة، مع ما يفرض ذلك على الدول الصديقة وغير الصديقة من تكيف مفاجئ، وهو ما يبدو انه المسار الأخطر”.
المقالة الثانية كتبها الباحثون، الأقرب الى اليمين، ستيفن بروكس وجون ايكينبيري، ووليام وولفورث، وجاء فيها انه “منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنت الولايات المتحدة استراتيجية عظمى واحدة هي الانخراط العميق، سمحت لها بحماية أمنها وبحبوحتها، كما سمحت لها بنشر مبادئ الاقتصاد الليبرالي واقامة تحالفات دفاعية متينة في اوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط”.
ويضيف هؤلاء ان هذه الاستراتيجية جاءت في مصلحة اميركا في العقود الستة الماضية، ولا يوجد سبب للتخلي عنها.
“تموضع أميركا حول العالم هو الشيطان الذي نعرفه، والعالم من دون انخراط اميركا فيه هو الشيطان الذي لا نعرفه.. واذا ما قرر زعماء اميركا ممارسة الانسحاب، يكونون بالتالي يخوضون في تجربة هائلة تمتحن كيف يسير العالم من دون قوة منخرطة وليبرالية تقوده، والنتائج ممكن ان تكون كارثية”، تقول المقالة.
على ان هذا الانقسام بين افراد النخبة الاميركية حول السياسة الخارجية الاميركية المقبلة يتلاشى عند الحديث عن الشرق الأوسط، فحتى المطالبون ببقاء أميركا “منخرطة” حول العالم، يبدو أنهم يؤمنون بضرورة “إعادة التمحور” من الشرق الأوسط إلى الأدنى، التي تمارسها إدارة اوباما.
وفي هذا السياق، كتب الثلاثي بروكس – ايكينبيري – وولفورث في الدراسة نفسها ان “هناك منافسا للهيمنة الأميركية، وهي الصين، ومن اجل تعديل قوتها، على الولايات المتحدة ان تبقي على تحالفاتها في آسيا وعلى المقدرة العسكرية للتدخل هناك”. متابعين: “ستكون نتيجة ذلك أنه على الولايات المتحدة الخروج من افغانستان والعراق، وتقليص وجودها العسكري في اوروبا، واعادة التمحور نحو آسيا، وهو تماما ما تفعله ادارة اوباما”.
إذن يبدو أن السياسة الخارجية الأميركية تتأرجح بين اليسار المطالب بتقليص دور اميركا في العالم ككل، واليمين الذي يؤيد ابقاء الدور الأميركي فاعلا، ولكن نقل التركيز من أوروبا والشرق الأوسط الى غرب آسيا والشرق الأدنى، ما يعني أن هناك شبه اجماع بين افراد النخبة الأميركية على ضرورة الخروج الكلي عسكريا وسياسيا من الشرق الأوسط تحديدا.
• انقلاب في الرأي العام الأميركي
في نوفمبر (كانون الثاني) 1998، كتبت بروفسورة “العلوم الاخلاقية” في جامعة آريزونا ماريان جينينغز، بحثا نشرته في صحيفة “ديزيرت نيوز”، وتضمن تحليلا لعادات الأميركيين بحسب أحدث استطلاعات الرأي، وحاولت أن تظهر فيه أن البلاد لو سارت حسب آراء الأكثرية، لتغيرت فيها أمور كثيرة، بعضها ربما يأخذ منحى غير اخلاقي.
دراسة جينينغز عكست استياء لدى معارضي الرئيس السابق بيل كلينتون من شعبيته المرتفعة دائما، على الرغم من الفضائح التي طالته مثل فضيحة علاقته بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا ليوينسكي. وجاءت الدراسة في خضم فضيحة ليوينسكي التي لاحقت كلينتون وأدت الى مصادقة مجلس النواب على عملية خلعه.
لكن التأييد الشعبي لكلينتون أجبر الجمهوريين، الذين كانوا يسيطرون على غالبية مقاعد الكونغرس، على التراجع، ما دفع هؤلاء الى اتهامه بأنه “يحكم حسب استطلاعات الرأي”، اي انه يتخذ دائما القرارات التي تظهر الاستطلاعات انها اكثر شعبية بين الأميركيين، ما يبقي نسب تأييده مرتفعة بشكل متواصل.
ولا شك ان الرئيس الأميركي، كل رئيس، يبقي عيونه مفتوحة تجاه استطلاعات الرأي. ففي اثناء الولاية الاولى، يفعل الرئيس ذلك بهدف ضمان انتخابه لولاية ثانية، وفي الولاية الثانية، يبقى الرئيس متحسبا تجاه الرأي العام من اجل “ذكراه” وصورته التي سيتذكرها التاريخ بعد خروجه من الحكم. ولا شك ان الرئيس السابق جورج بوش الابن خرج في موقع لا يحسد عليه، اذ تدنت شعبيته وشعبية نائبه ديك تشيني الى مستويات قياسية، حتى ان نسبة مؤيديه يوم خروجه لم تتجاوز ربع الأميركيين.
“الحكم حسب استطلاعات الرأي”، التهمة التي طالت كلينتون، تطال باراك اوباما ايضا بين الحين والآخر.
صحيح ان اوباما صوت ضد الحرب في العراق حتى عندما كانت الحرب تتمتع بشعبية بين الاميركيين، لكن موقفه هذا تحول فيما بعد الى نقطة قوة له مع مؤيديه ومع كل الذين انقلبوا الى معارضين للحرب التي طالت وكثرت تكاليفها البشرية والمالية.
وكما العراق، كذلك في افغانستان، ابدى اوباما رغبة في سحب القوات الاميركية من هناك، وهو ما اعطاه تفويضا اميركيا شعبيا حتى عندما اعلن خطة لزيادة القوات هناك، اذ ان غالبية الاميركيين اعتبرت ان اوباما يرسل المزيد من الجيوش الى هناك، من اجل التسريع في انهاء الحرب.
ولأن اوباما يتحسب دوما للرأي العام، ولأن غالبية الأميركيين صارت تؤيد انهاء الحربين، فهو أعلن أن استراتيجيته تقضي بانهائهما، وعدم التورط في أي حروب جديد ما لم تقتض الضرورة القصوى ذلك. بذلك حازت رؤية اوباما للسياسة الخارجية الشرق اوسطية، وللسياسة الدفاعية كذلك، تأييدا كبيرا بين الاميركيين.
حتى عندما بدا ان التدخل العسكري الأميركي مبرر تماما، مثلا في الحالة الليبية عندما كانت قوات معمر القذافي تستعد لاقتحام بنغازي، وربما ارتكاب مجازر بحق المدنيين هناك، ظل اوباما مترددا في التدخل، وهو عندما أمر الأسطول السادس المرابض في البحر الأبيض المتوسط بالمباشرة بشن الحملة التي اعلنها “تحالف الأطلسي” لحماية المدنيين ضد قوات القذافي، فهو فعل ذلك بخجل، ولم يتوجه الى الكونغرس طلبا للموافقة على اعلان حرب، على عادة الرؤساء الأميركيين.
وعندما بدأ أعضاء الكونغرس من معارضيه من الحزب الجمهوري بتوجيه الأسئلة حول قيام أوباما بإعلان الحرب من دون اعلامهم، بحسب ما يقتضي الدستور، قال أوباما إن بلاده لم تعلن الحرب، بل شاركت لمدة أسبوع واحد من ضمن حملة الأطلسي. وبعد مرور الأسبوع، احجمت القوات الأميركية عن المشاركة، ولم تساهم الا بطيارتين من دون طيار كان التحالف يحتاج لهما لعدم قدرته القضاء على اهداف ارضية من دون القوة الجوية الأميركية.
في ليبيا، تصرف اوباما حسبما تمليه الرغبة الشعبية الاميركية، وكذلك فعل في سوريا، حيث تخطى عدد القتلى 60 الفا، من دون ان تحرك القوات الاميركية ساكنا او تفكر في التدخل.
ولا شك أن تصرفات أوباما هذه تمليها الرغبة الشعبية، التي تميل اليوم الى سحب القوات الاميركية من المعمورة، والتفرغ للشؤون الداخلية.
سياسات اوباما هذه تعززها احدث استطلاعات الرأي، ففي شهر اكتوبر (كانون الأول) الماضي، اجرى معهد “بيو” استطلاعا شمل 1511 اميركيا، واظهرت نتائجه ان اثنين من بين كل ثلاثة اميركيين يعتقدون “انه يجب ان تكون مشاركة الولايات المتحدة أقل في التغييرات التي تجري في الشرق الأوسط”، فيما اعتبر أقل من ربع المستفتين أن على بلادهم ان تنخرط اكثر في الشؤون العربية.
• نهاية “المحافظين الجدد”
“المحافظون الجدد” هي تسمية تشمل نخبة من المثقفين الأميركيين من المحسوبين على اليمين والحزب الجمهوري، لكن ايرفينغ كريستول، “الأب الروحي” لهذه الموجة السياسية، كان في الأساس مثقفا شيوعيا يتمسك بنهج تروتسكي. اما رؤيته للدور الاميركي حول العالم، فكان يتمحور حول ضرورة قيام الولايات المتحدة بنشر مبادئها الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية، وان لا ضير في استخدام القوة العسكرية الأميركية للقيام بدور “الهندسة الاجتماعية” في بناء البلدان والدول وتحويلها الى ديمقراطيات، على غرار ما فعلت اميركا في المانيا واليابان وكوريا الجنوبية في النصف الثاني من القرن الماضي.
على أن نظرية كريستول هذه، لم تكن لتلقى رواجا لو لم تجد الأساطيل الأميركية نفسها على أهبة الاستعداد لمطاردة مخططي وممولي هجمات 11 سبتمبر (ايلول) في نيويورك وواشنطن. ومع أن الجيوش الأميركية كانت متوجهة أصلا في حملة تأديبية وعقابية ضد المسؤولين عن هذه الهجمات في افغانستان، الا أن “المحافظين الجدد” الذين كانوا يشغلون مناصب متعددة ورفيعة في الإدارة الأولى للرئيس بوش الابن، مزجوا حملة التأديب بفكرة “نشر الديمقراطية” و”بناء الأمم”.
وعزز من موقع “المحافظين الجدد” واقع ان النخبة الأميركية عموما بدأت تطرح على نفسها اسئلة من قبيل “لماذا يكرهوننا”، وتحاول الإجابة عن هذه الأسئلة بالخوض في السياسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للشعوب الأخرى.
هكذا ذهبت اميركا الى افغانستان، لا لمطاردة تنظيمي “القاعدة والطالبان” فحسب، بل لبناء حكومة ديمقراطية في افغانستان. وفي وقت لاحق، شجع الانتصار العسكري السهل ادارة بوش على اختيار بلد آخر لشمله ببرنامج “نشر الديمقراطية”، وتم اختيار العراق لأسباب متعددة ومتشابكة شاركت في تقديمها لوبيات النفط والسلاح واعادة الاعمار، كذلك اللوبي التابع للمعارضة العراقية المقيمة وقتذاك في العاصمة الاميركية.
في الأسابيع التي تلت هجمات 11 سبتمبر، قامت مراكز الرأي باستطلاع وجهات نظر الاميركيين حول رأيهم تجاه التغيير الكبير المقبل في السياسة الخارجية الاميركية. واظهرت الاستطلاعات تأييدا واسعا لضرورة مطاردة الجيش الأميركي للجهة التي خططت ونفذت الهجمات.
لكن غالبية الاميركيين لم تبد تأييدا يذكر لمبدأ “نشر الديمقراطية” حول العالم، اذ اعتبر 29 في المائة منهم فقط ان على بلادهم القيام بمجهود من هذا النوع.
وبعد اكثر من عقد، وبعدما انفق الاميركيون ما يقارب 5 ترليونات دولار لتمويل الحربين، وخسروا اكثر من 7000 جندي، وبعد ان شعر الاميركيون ان بناء حكومات ديمقراطية في العراق وافغانستان أمر شبه مستحيل، على الرغم كل التضحيات المالية والبشرية التي قدموها، انخفض تأييد مبدأ “نشر الديمقراطية” حول العالم، الذي قدمه “المحافظون الجدد” مطلع العقد الماضي، الى أقل من نصف ما كان عليه في العام 2002، واظهر استطلاع الرأي الذي اجراه معهد بيو في أكتوبر، أن عدد الأميركيين الذين مازالوا يؤيدون نشر الديمقراطية في العالم لا يتعدى الـ13 في المائة.
• “احتواء” إيران النووية بدلا من منعها
يزعم الناشط الإيراني – الأميركي والمؤيد لانفتاح أميركا على نظام إيران تريتا بارسي في كتابه “رمية نرد واحدة” انه بعد أسابيع على اندلاع حرب العراق في عام 2003، ارسلت طهران كتابا الى واشنطن عبر دبلوماسيين سويسريين يمثلون المصالح الأميركية في إيران، واقترحت فيه انهاء برنامجها النووي وفتح صفحة جديدة بين البلدين. ويقول بارسي إن الأميركيين، وخصوصا نائب الرئيس تشيني، شعروا بثقة زائدة في النفس على اثر سقوط نظام صدام حسين، فرفضوا تلقف العرض الإيراني.
لكن يبدو أن الذعر الإيراني من الموجة الأميركية لنشر الديمقراطية انتهى بعد ذلك بقليل، إذ بادرت إيران إلى إعادة تفعيل، بل تسريع، برنامجها لتخصيب اليورانيوم، وعملت على بناء منشأة سرية تحت الأرض، في جبل فوردو المحاذي لمدينة قم. وفي وقت لاحق، اكتشفت الاستخبارات الغربية مفاعل فردو النووي، في وقت علمت عواصم العالم أن مخزون ايران من اليورانيوم المخصب بنسبة 3 في المائة قد تعدى 1200 كيلوغرام.
بوش حاول إظهار حزمه في مواجهة الإيرانيين، ورفض الدخول في مفاوضات معهم قبل ايقافهم التخصيب، وكرر مقولة أن “كل الخيارات، بما فيها العسكرية” هي على الطاولة الأميركية. لكن يبدو أن إيران كانت تعلم أن لا بوش، ولا من سيخلفه، سيقدم على حرب أخرى، خصوصا بعدما خسرت حربا العراق وافغانستان كل التأييد الشعبي الذي حصدتاه إبان اندلاعهما.
واستمرت إيران في التخصيب في وقت برز نجم المرشح الرئاسي من الحزب الديمقراطي باراك اوباما، الذي كرر اثناء حملته انه كان ينوي أن “يبادر” إلى الحوار مع ايران من أجل التوصل الى حلول في ملفها النووي، حتى انه وعد بإرسال وزيريه للخارجية والدفاع الى طهران لمباشرة الحوار.
وجاء الامتحان الأول بعد ستة اشهر على دخول اوباما البيت الأبيض، اذ اندلعت في حزيران 2009 ما عرف بـ “الثورة الخضراء” في ايران، التي بدأت اعتراضا على اعادة انتخاب محمود احمدي نجاد رئيسا، وتحولت الى انتفاضة ضد حكم علي خامنئي بأكمله، اذ ذاك بدأ النظام الايراني بقمع الثورة بعنف.
واثباتا لحسن النية، لم ينبر اوباما الى انتقاد القمع الايراني، بل ارسل وفودا سرية طلبا للحوار.
هكذا، شعرت ايران ان واشنطن ضعيفة، فضاعفت من تخصيبها لليورانيوم، واخذت تخصب كمية منه الى درجة 20 حتى وصل مخزونها في شهر نوفمبر الماضي 135 كيلوغراما. ومن المعلوم ان انتاج قنبلة نووية يحتاج الى 200 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بدرجة 20 في المائة، حتى يتم تخصيبه الى درجات تتعدى الـ 90 في المائة.
ومع ان اوباما، كما بوش، كرر انه يبقي الخيار العسكري على الطاولة لمنع ايران من انتاج السلاح النووي، الا انه لا يبدو ان طهران تأخذ هذه التهديدات العسكرية الاميركية على محمل الجد، الى درجة انها صارت تضع المزيد من الشروط حول استئناف المفاوضات مع دول مجلس الامن والمانيا للتوصل الى حل حول ملفها النووي.
ولأن الشعور الشعبي الاميركي معارض لاي عمل عسكري حول العالم، صارت تعلو اصواتا للمطالبة بما كان يعتبر خطيئة في عالم السياسة الاميركية قبل سنوات، اذ كثر عدد المثقفين من المطالبين بـ “قبول دخول ايران نادي الدول النووية”، و”قبول حيازتها سلاحا نوويا”، ووجوب “انتهاج سياسة احتواء او ردع” لايران النووية بدلا من توجيه ضربة عسكرية تمنعها من الحصول على هذا النوع من السلاح.
وفي شهر يناير 2013 وحده، نشر مستشار الأمن القومي السابق للرئيس جيمي كارتر مقالة في “واشنطن بوست” يؤيد فيه اسياسة الاحتواء، فيما عبر عن دعمه لترشيح اوباما للسناتور السابق تشاك هيغل وزيرا للدفاع، وكان هيغل كتب في كتابه “اميركا الفصل القادم” أن على واشنطن “المبادرة” لاجراء حوار غير مشروط مع ايران، وإعادة العلاقات الطبيعية معها كما فعلت ادارة الرئيس السابق ريتشارد نيكسون مع عدوتها الصين الشيوعية مطلع السبعينات.
كذلك نشر البروفسور في جامعة كولومبيا روبرت جيرفيز مقالا في مجلة “فورين افيرز” بعنوان “التوصل الى نعم مع ايران”، وتبنى المقال الاعلاميان جورج ستيفانوبوليس على شبكة “اي بي سي”، وفريد زكريا على شبكة “سي ان ان”.
ومن نافل القول ان الحديث عن “احتواء” ايران ومباشرة الحوار غير المشروط معها، لم يكنا ممكنين لو كانت واشنطن ماتزال تعكس صورة القوة العسكرية القادرة على بث الذعر، على الأقل، لدى خصومها، حتى لو لم تكن تنوي استخدام هذه القوة العسكرية فعليا لثنيهم عن القيام بسياسات لا تتوافق مع المصالح الاميركية.
• عودة الحزبين إلى العزلة
يحلو لكثيرين التفكير أن ضمور الدور العسكري الأميركي حول العالم هو بسبب انتخاب باراك اوباما من الحزب الديمقراطي رئيسا، وهو ما دفع كثيرين، حتى من غير مؤيدي الحزب الجمهوري، تأييد مرشحي هذا الحزب، جون ماكين في عام 2008 وميت رومني العام الماضي، الى الرئاسة.
الا ان الواقع يشي بأن تراجع الدور العسكري الأميركي حول العالم لم يكن ليختلف بغض النظر عن هوية والتوجهات السياسية لسيد البيت الأبيض، فعلى عكس الاعتقاد السائد، لم يبدأ التراجع العسكري الأميركي في عهد اوباما، بل في زمن سلفه بوش.
في هذا السياق، لا بد من التذكير ان ادارة بوش هي التي وقعت “معاهدة وضع القوات” مع العراقيين، والتي سمحت للجيش الاميركي البقاء لعام واحد بعدما انهى مجلس الأمن تفويض احتلال اميركا للعراق في عام 2010. كما ان سياسة الانفتاح على اعداء اميركا السابقين، مثل نظامي سوريا وايران، لم تبدأ مع اوباما بل بدأت تحت اشراف وزيرة خارجية بوش، كوندوليزا رايس، التي دعت السوريين الى مؤتمر السلام في انابوليس في ربيع عام 2007، والتي ارسلت وكيلها وليام بيرنز للمشاركة في مفاوضات ما يعرف بـ”مجموعة دول خمس زائد واحد” مع الايرانيين.
اوباما بدوره استكمل الانسحاب الاميركي من العراق حسب جدول بوش، واستأنف سياسة الانفتاح على بشار الاسد في سوريا، وسياسة الحوار مع ايران وفرض العقوبات عليها في الوقت نفسه في مجلس الامن. وفي الاطار نفسه، كان لا بد لأوباما من انهاء الحرب في افغانستان، والأرجح انه حتى لو وصل الجمهوري ماكين الى الرئاسة، لكن فعل الأمر نفسه، وهو ما ينطبق ايضا على رومني لو قيض له الحاق الهزيمة باوباما والحلول مكانه.
إذن الانكفاء العسكري الأميركي حول العالم، والعزلة الأميركية المرافقة له، لا ترتبط بوجهة نظر رئيس واحد او حزب واحد او عقيدة. وباستثناء بعض “المحافظين الجدد” ممن مايزالون يؤيدون العمل العسكري بكل أشكاله، يبرز إجماعا أميركيا حول ضرورة الانكفاء وكبح الدور الاميركي العالمي.
وكان أول الملتقطين للشعور الأميركي العام، العابر للعقائد، الخبير البريطاني في الشؤون الاستراتيجية لورنس فريدمان، الذي نشر مقالة في “ناشونال انترست” حملت عنوان “خرابة على تلة”، وهو عنوان يتهكم على إطلاق الرئيس الراحل رونالد ريغان على بلاده لقب “المدينة المشعة على تلة”.
ومما قاله فريدمان ان “عاملين يميزان اميركا عن القوى العظمى التي برزت في الماضي: (أولا أن) القوة الأميركة تعتمد على التحالفات بدلا من المستعمرات، و(ثانيا أنها) ترتبط بعقيدة سياسية مرنة تمكنها من العودة اليها حتى بعدما تكون قد تخطت حدود قوتها”.
التاريخ يعيد نفسه
الأسباب العشرة التي سقناها حتى الآن، تشير إلى أن أميركا تمر في مرحلة ضمور عسكري حول العالم. ولكن هل يجوز اعتبار هذه مرحلة تكتيكية، أو هل هي تشير إلى ضمور قوة الامبراطورية الأميركية بشكل دائم، وتاليا تراجع دورها العالمي إلى غير رجعة.
من المبكر الحكم على ديمومة التراجع الأميركي، فالمواجهة بين أميركا والصين مازالت في بداياتها، ولا ضمانات أن الصين ستستمر في صعودها الاقتصادي، إذ يرجح خبراء كثيرون ان تصطدم بما يسمى “فخ المدخول المتوسط” حيث تتحسن مستوى المعيشة فيها الى درجة لا تعود اليد العاملة فيها هي الأرخض عالميا، فيما لا تنجح في تحويل نفسها الى دولة صناعية بالكامل يمكنها منافسة الدول الصناعية الغربية مثل أميركا وألمانيا واليابان.
كذلك يضرب الخبراء صعود اليابان، ثم توقفها، مثالا على أن الصعود الصيني قد لا يتجاوز الولايات المتحدة، وبذلك تبقى أميركا الأولى اقتصاديا في العالم، وتاليا الأولى عسكريا وسياسيا.
لكن بغض النظر عن نتائج المنافسة بين أميركا والصين وانعكاسها على ميزان القوى العالمي، يمكن الجزم بأن الدور العسكري الأميركي في العقود القليلة المقبلة سيكون أصغر بكثير مما كان عليه في العقود الأربعة الماضية، على الأقل استدلالا بما فعلته أميركا على اثر حروبها الكبرى الماضية، الحربين الكونيتين وحربي كوريا وفيتنام والحرب الباردة، إذ عمدت إلى تخفيض مجهودها الحربي إلى أدناه في المراحل التي تلت الحروب، وعمدت الى التفرغ إلى وضعها الداخلي، وخصوصا الاقتصادي.
واستدلالا بالماضي أيضا، يمكن القول إن اليوم، وبعد نهاية “الحرب على الإرهاب” ومغامرتي العراق وأفغانستان، تتصرف واشنطن بالطريقة نفسها كما فعلت في الماضي: تقوم بتقليص إنفاقها العسكري، وتسريح المشاة، وتخفيض عدد بوارجها وسفنها الحربية، وتأجيل برامج تطوير الأسلحة على غرار تجميدها برنامج صناعة طائرات اف 35 المكلف، وتتفرغ لشؤونها الأخرى الاقتصادية والاجتماعية.
هل يعني ذلك أن أميركا ستنشغل بشؤونها عن شؤون العالم إلى الأبد؟ لا إجابة حاسمة عن ذلك، لكن الإجابة الوحيدة المتوافرة اليوم هي أن أميركا ستبتعد عسكريا عن مناطق العالم حتى اشعار آخر، وهي ان كانت تخطط في يناير 1980 إرسال قواتها الى الخليج، فهي اليوم تنوي سحبهم من الشرق الأوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق