واشنطن - حسين عبدالحسين
النيوليبرالية مدرسة اقتصادية انتشرت تعاليمها منتصف سبعينات القرن الماضي، وتبعثرت مع أواخر العقد الماضي الذي أجبر روادها مثل الولايات المتحدة، على إعادة قيود كثيرة كانت رفعتها عن السوق، ما أدى إلى انفلاتها وإلى مضاربات أدت بدورها إلى فقاعة واندلاع الركود الكبير عام 2008.
الحكومة الأميركية تعلمت الدرس، فأقر الكونغرس مجموعة من القوانين تصدّرها قانون دود - فرانك، الذي أعاد القيود على المصارف والمؤسسات المالية. واتسعت دائرة التشكيك في المرافق العامة التي يديرها القطاع الخاص بسبب تركيزها على الأرباح فقط، من دون الالتفات إلى رواتب الموظفين أو إلى نوعية الخدمات التي تقدمها. لكن فات بعض الأميركيين الدرس، فعادوا إلى النغمة ذاتها: دعوة دول العالم إلى تخصيص كامل وفوري لمرافق القطاع العام، وتخفيف القيود على عملها ورأس المال، بحجة أنها تكبح التنافسية وتؤثر سلباً على النمو.
في هذا السياق، أصدر مركز بحوث «كاتو» اليميني «الليبرتاري» دراسة اعتبرت أن ملكية بعض الحكومات العربية للمرافق الاقتصادية الكبرى في بلادها «تشكل عبئاً على اقتصاداتها ونموها». وخصّت الدراسة بالذكر حكومات الجزائر وسورية واليمن ومصر، وقارنتها بتونس التي أوضحت الدراسة أن حكومتها حققت نجاحات اقتصادية من طريق التخصيص.
والليبرتارية هي مدرسة اقتصادية أميركية، تدعو إلى تقليص حجم الحكومة إلى حده الأدنى، وإحالة دورها على القطاع الخاص والجمعيات الأهلية. ويملك «معهد كاتو» الأخوان ديفيد وتشارلز كوك، وهما من أغنى رجالات الولايات المتحدة بثروة تتجاوز 100 بليون دولار، حققاها من عملهما في القطاع النفطي الأميركي.
وجاء في الدراسة التي أعدّها الباحث داليبور روهاك بعنوان «اليد الميتة للاشتراكية: ملكية الدولة في العالم العربي»، أن ملكية الحكومات لقطاعات الاقتصاد هي «مصدر لعدم الكفاءة وعائق للنمو الاقتصادي»، وأن الحكومات في الدول المذكورة «تدير أجزاء كبيرة من اقتصاداتها، تصل في بعض الحالات إلى ثلثي الناتج المحلي».
واعتبر روهاك أن «التجربة الدولية تشي بتفوق الملكية الخاصة على العامة، ومع ذلك حققت (دول عربية) تقدماً طفيفاً في تقليص حصة الحكومات في اقتصاداتها»، وان «لا مؤشرات تدل على نية هذه الدول القيام بتخصيص على نطاق واسع». وتوصي الدراسة الدول بضرورة «تطبيق التخصيص حتى تساند انتقالها إلى أنظمة سياسية أكثر تمثيلاً»، معتبرة أن تجارب الدول التي تبنت التخصيص تشير إلى ضرورة مراعاة ثلاثة شروط.
الأول، واستناداً إلى الدراسة، هو أن لشكل التخصيص أثراً على نتائجها والقبول الشعبي للإصلاح»، فالشفافية واعتماد المناقصات العلنية يعطيان نتائج أفضل من التخصيص من طريق المقربين وبعيداً من عيون العامة.
الشرط الثاني يرتبط وفق الدراسة، بالقوانين الناظمة للقطاع المالي بعد تحول المرفق العام إلى شركة خاصة. أما الثالث، فهو أن «التخصيص يحتاج إلى أن تكون جزءاً من رزمة إصلاح أوسع تؤدي إلى ليبرالية الاقتصاد وتفتحه للمنافسة»، لأن «ملكية الدولة تؤدي إلى غياب التنافسية».
وعرّجت الدراسة على «الربيع العربي» وتداعياته الاقتصادية، ولاحظت أن «في مصر انخفضت حصة الحكومة من الاستثمارات العامة من 85 في المئة مع نهاية التسعينات إلى أقل من 40 في المئة عام 2012»، وهي وحدها من الدول التي شملها التقرير، «طبقت برنامجاً مستمراً للتخصيص في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس حسني مبارك». لكن الدراسة أخذت على عملية التخصيص المصرية، التي كان «رأس حربتها نجل مبارك، جمال»، أنها ترافقت مع اتهامات واسعة بالفساد والمحسوبية. وأجرى روهاك مقارنة مع التخصيص الذي أجرته بريطانيا، معتبراً أنها أدت إلى ارتفاع في عائدات المرافق التي تم تخصيصها، وإلى زيادة في نمو إنتاجها وفي فاعليتها.
لكن ما لا يفطن له الباحث الأميركي هو الارتباط الوثيق، ليس في الدول العربية فحسب بل في اقتصادات أكثر تطوراً مثل الصين، بين «الأمن الاجتماعي» لهذه الدول واقتصاداتها، فالفترة التي تفصل بين تحول الحكومات من مالكة للمرافق إلى ناظمة لها فقط، ترتبط كذلك بتقليص عدد العاملين في القطاع العام. وحتى يصبح القطاع الخاص قادراً على حمل الأمانة أي توظيف العدد الأكبر من العاملين، سيؤدي التخصيص إلى ارتفاع في البطالة وتقلص شبكة التقديمات الاجتماعية، وتالياً إلى نوع من الاهتزاز السياسي.
والغريب أن روهاك لم يربط أبداً بين التخصيص في مصر في زمن مبارك واهتزاز حكمه. ولو أنه تابع الأحداث المصرية لرأى أن الحكومات التي تعاقبت بعد رحيل نظام مبارك، حتى التي تمتعت بتمثيل شعبي، لم تتمكن من خفض أو إلغاء دعمها للمواد الأساسية كالطحين والوقود، وعادت عن هذه القرارات بعدما أحدثت شغباً.
وربما لو أضاف روهاك العراق، الدولة التي تجمعها ومصر واليمن وسورية اشتراكية مزعومة، لرأى أن على رغم الانهيار الفوري للدولة العراقية إثر الحرب الأميركية عام 2003، اضطرت الحكومات التي تلتها أن تلعب دور المالكة الأكبر ورب العمل على مستوى البلاد، إذ بقي إنفاق بغداد على برامج مثل الحصة التموينية والاستشفاء والتعليم، مرتفعاً بمقاييس الدول ذات الاقتصاد الليبرالي.
أما سبب اضطرار بغداد إلى إعادة برامجها الاقتصادية السابقة فيرتبط، إضافة إلى نية بعض السياسيين تحسين شعبيتهم لدى العراقيين من طريق موازنات الحكومة، بسعي العراق إلى تقليص البطالة وتثبيت الوضع الأمني المنفلت.
الدول ليست أرقاماً بل بشراً يملكون ثقافات مختلفة، وتوقعات متباينة حول دور الدولة، ووعي مختلف لدور السوق في الحياة الاقتصادية. صحيح أن التخصيص نجح في بريطانيا، ولكن بعد مرور أكثر من قرن على الديموقراطية والمشاركة الشعبية وتداول الحكم، التي من دونها كان يمكن التخصيص أن يؤدي إلى ثورة عشائرية قبلية على الطراز الذي عاشه بعض الدول العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق