واشنطن - حسين عبدالحسين
تشير استطلاعات الرأي المتتالية، وآخرها الصادر عن «واشنطن بوست - جمعية قيصر»، إلى أن قوة رئيسية ناخبة دفعت المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى إلحاق الهزيمة بمنافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون، وهي تتألّف من الرجال الأميركيين البيض. إذ كلما انخفض مستوى تعليم هؤلاء، ارتفعت نسبة تأييدهم الرئيس الأميركي، ما يعني دعماً كبيراً لترامب في الأرياف وانخفاضه في المدن وضواحيها.
ويعزو الخبراء ازدياد شعبية ترامب بين هذه الفئة السكانية الأميركية إلى دخول الولايات المتحدة في «عصر ما بعد الصناعة»، إذ تحوّل الاقتصاد من الصناعات لا سيما منها الثقيلة، إلى الخدمات مثل الاستشفاء والتعليم والهندسة والسياحة.
والانتقال من الصناعة التي تتطلّب يداً عاملة من أصحاب «الياقة الزرقاء»، إلى الخدمات التي تحتاج إلى أصحاب «الياقة البيضاء»، يستدعي حتماً ارتفاعاً في نسب التعليم ودرجاته بين الأميركيين.
وتظهر الاستطلاعات الأميركية، أن الأعمال اليدوية في سوق العمل عام 1960 كانت تشغّل 47 في المئة من الذكور الأميركيين تتراوح أعمارهم بين 18 و56 عاماً. وتراجعت نسبة العمال اليدويين في الاقتصاد إلى 27 في المئة عام 2014 .
في عام 1960 أيضاً، شكّل العمال الذين لم ينهوا دراستهم الثانوية 51 في المئة من اليد العاملة في البلاد، فيما أصبحت نسبة العمال ممن لم ينهوا الثانوية 9 في المئة فقط عام 2014 . كما ارتفع عدد الخريجين من الجامعات من 10 إلى 35 في المئة في الفترة ذاتها.
في ضوء هذه الأرقام، كان من الطبيعي أن تزداد نسبة الوظائف في قطاع الخدمات من أقل من النصف بقليل عام 1970، إلى أكثر من الثلثين اليوم.
ويعزو الخبراء التغيير البنيوي في الاقتصاد الأميركي إلى أسباب كثيرة، منها الارتقاء في مستوى التعليم لدى غالبية الأميركيين، ما يرفع من كلفة الإنتاج للمصانع المستندة إلى اليد العاملة اليدوية، فتنقل الأخيرة مصانعها إلى دول تتدنى فيها كلفة اليد العاملة.
وينتعش قطاع الخدمات داخل الولايات المتحدة في الوقت ذاته، لأن اليد العاملة ذات التعليم العالي المستوى متوافرة للتوظيف، وبأسعار تنافسية مقارنة بالدول النامية.
يعتقد الخبراء أيضاً أن عوامل أخرى أدّت إلى تقليص القطاع الصناعي الأميركي، في مقدمها المكننة وأخيراً «الاقتصاد التشاركي» مثل شركتي «آر بي أن بي» التي اقتنصت أعمالاً واسعة من سوق الفنادق وعمالها و»أوبر» التي تزاحم سائقي سيارات التاكسي. ويخشى سائقو «أوبر» والتاكسيات من وصول السيارة التي تقود ذاتها، والتي ستُخرج عدداً كبيراً من السائقين من السوق، وتجعلهم عاطلين من العمل.
ويزيد الطين بلة، بالنسبة إلى الرجال البيض غير الحائزين شهادات جامعية، الانخراط الكبير الذي حققته المرأة في سوق العمل منذ سبعينات القرض الماضي حتى اليوم. وتظهر بيانات وزارة العمل الأميركية، أن مشاركة المرأة في سوق العمل ارتفعت من 7.32 في المئة عام 1948 إلى 60 في المئة عام 1999، قبل أن تتراجع إلى 7.56 في المئة عام 2015. وتدنت نسبة مشاركة الرجال في الفترة ذاتها، من 4.71 إلى 2.53 في المئة.
ويجد رجال الأرياف من الأميركيين البيض أنفسهم، وغالبيتهم ممّن كانوا يحصلون على راوتب تكفيهم من أعمالهم اليدوية أو في المصانع، إما من دون وظيفة أو يعملون برواتب لا تكفي نفقاتهم ومصاريف عائلاتهم، وسط منافسة شديدة على ما تبقى من الوظائف التي لا تتطلب شهادات جامعية من النساء ومن غير البيض.
ويعتقد هؤلاء الأميركيون البيض أن الحكومة الفيديرالية لا تستمع إلى شكواهم، بل صادقت على اتفاقات تجارة حرة ساهمت، في رأي هؤلاء، في إقفال مزيد من المصانع الأميركية ونقلها إلى دول أجنبية.
لهذا السبب، اقترعت غالبية من الرجال البيض من غير المتعلمين لترامب، الذي أطلق وعوداً لا يعتقد أي اقتصادي قابليتها للتحقيق، من قبيل تعطيل العولمة والتجارة الحرة، وإغلاق الحدود الأميركية، وإجبار الشركات الأميركية على إعادة مصانعها من الخارج. ربما صدق رجال أميركا البيض من ذوي التعليم المنخفض، إمكان ترامب الوفاء بالوعود التي قطعها، لكن إجماع الاقتصاديين الأميركيين يشي باقتراب الولايات المتحدة من تحقيق انتقال كامل من اقتصاد الصناعة إلى ما بعدها، أي الخدمات، وهذا انتقال بنيوي يحصل على مدى عقود. وليس مرجحاً أن يتمكن ترامب، ولا أي من رؤساء أميركا ممّن سيخلفونه من وقف هذا التحول أو عكسه.
أما الرجال البيض من غير المتعلمين، فإما يعودون إلى الجامعات والمعاهد لتحسين مستوى تحصيلهم العلمي وتالياً فرصهم في إيجاد أعمال جديدة، غير اليدوية التي كانوا يعملون فيها، أو يغرقون في بطالتهم في انتظار تقاعدهم وإفادتهم من صناديق الدولة الاجتماعية وعطاءاتها الشحيحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق