حسين عبدالحسين
"اذا كان معيارنا هو وضع فوضوي وميزان قوى غامض، واذا لم ينشب العنف على نطاق واسع، واذا استمر الفساد ولكن استمرت البلاد في العيش يوماً بيوم، من دون ان تكون خطراً على جيرانها أو معقلًا لتنظيم القاعدة، هذه امور تبدو لي ممكنة في جدول زمني محدد". تلك كانت الاهداف التي حددها السناتور، باراك أوباما، لبلاده في العراق، في واحدة من المرات النادرة التي عبّر فيها عن رؤيته الحقيقية للسياسة الخارجية، في العام 2008، اثناء حملته الرئاسية الاولى التي كانت مفعمة بالشعارات البرّاقة.
حينها، قطع المرشح أوباما برنامج حملته للمشاركة في جلسة استماع عقدتها "لجنة الشؤون الخارجية"، في مجلس الشيوخ، في 7 نيسان 2008، برئاسة السناتور جو بايدن، الذي اختاره أوباما في ما بعد نائباً له. وفي تلك الجلسة، شارك ابرز اثنين من رجالات اميركا في الخارج، الدبلوماسي اللامع ريان كروكر، الذي كان سفيراً في العراق، والجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الاميركية هناك. وشهدت الجلسة نقاشاً حامي الوطيس، شارك فيه ثلاثة مرشحين رئاسيين، الى جانب أوباما، هيلاري كلينتون وجون ماكين. ويومذاك، زلّ لسان كروكر، المعروف عنه الرصانة، وقال لمن تحلّقوا حوله بعد الجلسة، إن "السناتور أوباما يريد أن تكون سياستنا الخارجية بالتي هي أحسن".
الوصف الذي قدمه أوباما في تلك الجلسة، كما عبارة كروكر، يعكسان اليوم بدقة طريقة تفكير أوباما في السياسة الخارجية، التي اصبحت في معظمها ألاعيب كلامية. في ليبيا، تحولت عبارة احد اركان ادارته عن "القيادة من الخلف"، الى مصدر تندر، و"خطوطه الحمراء" في سوريا ظهر أنها كلام. أما حواره مع ايران يبدو أنه حوار من اجل الحوار، ودراسته إن كان خلع الجيش المصري للرئيس محمد مرسي انقلاباً، لم تفض الى نتيجة حتى الآن، بل إن اركان ادارة أوباما يكررون، من دون حياء، أنهم لا يعتقدون ان عليهم "تعريف" ما حدث في مصر في 3 تموز/يوليو، حتى لا يتوجب عليهم التعامل مع نتائج استنتاجاتهم.
سفسطائية أوباما تلقفها جنرالات مصر، وهم لو كانوا يعلمون في العام 2011 أن أوباما هو مجرد ظاهرة خطابية، ربما لتجاهلوا مطلبه بأمر نائب الرئيس المصري الراحل عمر سليمان، تلاوة استقالة لم يكن الرئيس السابق حسني مبارك موافقاً عليها. وربما أيضاً كان يمكن للجيش المصري أن يحاول "فض الاعتصامات"، في ساحة التحرير في شتاء العام 2011، تماماً كما يفعل اليوم في رابعة العدوية، من دون ان يضطر الى الرضوخ للرغبة الشعبية في حينه والاطاحة بمبارك.
جنرالات مصر تعلموا كذلك ان ادارة أوباما تأخذ ما تريده، وتترك الباقي للكلام. في العراق، حرب حكومية على القاعدة وضخ للنفط، بشكل يسمح باخراج ايران من السوق من دون ارتفاع في سعر النفط العالمي. اما تجاوز رئيس الحكومة، نوري المالكي، لكل مواثيق الديموقراطية المعروفة، وما ينتج عن ذلك من استمرار للصراع وتأجيج للعنف، فلا يثير واشنطن.
في مصر، تستخدم اميركا وحلفاؤها قناة السويس والمجال الجوي المصري، وتضمن تثبيت الحدود مع اسرائيل، مقابل مليار ونصف المليار دولار من المساعدات العسكرية الاميركية سنوياً. أما انقلاب عسكري ومقتل المئات في شوارع مصر في يومين، فلا يستأهل في نظر أوباما حتى سحب السفير الاميركي من مصر. فقط بيانات ادانة والغاء مناورات عسكرية، يمكن اجراؤها في اي وقت لاحق.
هكذا، عندما حدد جنرالات مصر مصالح اميركا، وعرفوا ان الديموقراطية وحقوق الانسان ليسا اكثر من ثرثرة اميركية، أعادوا عقارب الساعة في مصر الى أيام الحكم بقوانين الطوارئ، وهي القوانين التي عارضتها واشنطن على مدى عقود، ولكن دائماً على شكل بيانات ادانة ومناشدة للحليف مبارك بالتراجع عنها. وهو ما لم يوافق عليه حليفهم يوماً. أما حلفاء اميركا الجدد من عسكر مصر فلن يتراجعوا عن هذه الاجراءات في المدى المنظور.
وضع فوضوي، وميزان قوى غامض، وعنف على مستوى محدود، وفساد، وغياب "تنظيم القاعدة" هي ظروف تصف وضع مصر اليوم، كما العراق في2008، وكما انسحبت اميركا من العراق، لا سبب لها للانغماس في مصر، برأي أوباما.
"لا يمكن لاميركا ان تحدد مستقبل مصر، فهذه مهمة الشعب المصري"، قال أوباما في خطابه حول مصر، بعدما قطع اجازته الصيفية للادلاء بهذا التصريح عقب فض اعتصامي رابعة العدوية ونهضة مصر. وأضاف: "نريد لمصر ان تنجح، ونريد مصر في سلام وديموقراطية واستقرار، وهذه مصلحة لنا، لكن من اجل ادراكها، سيكون على المصريين القيام بذلك". وختم حديثه بالقول ستكون هناك "ايام صعبة"، كجزء من التجربة التي سيخوضها المصريون من اجل الوصول الى الديموقراطية والاستقرار.
بين العراق 2008 ومصر 2013، لا يزال معيار أوباما هو نفسه، وهو نوع من السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي لم يعتد العالم رؤيتها منذ زمن، وهي ستستمر في الغالب في السنوات الثلاث المقبلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق