حسين عبدالحسين
يصف رئيس مجموعة "يوريجا للاستشارات والابحاث" ايان بريمر، الأزمة الأوكرانية بـ "أكبر زلزال جيوسياسي منذ 11 أيلول"، فيما يكتب بيتر بايكر في صحيفة "نيويورك تايمز" أن "الاحتلال الروسي للقرم يمثل تحدياً للسيد (باراك) أوباما لا يشبه أي أزمة دولية أخرى".
الأزمة الأوكرانية لا تشكل تحدياً للرئيس الأميركي، باراك أوباما فحسب، بل هي تطرح اسئلة كثيرة حول رؤية أوباما للمسرح العالمي ولدور الولايات المتحدة فيه، وهي رؤية يبدو أنه صار يمكن تلخصيها بأن الرئيس الأميركي يعتقد أنه لطالما كانت أزمات العالم من صنع بلاده، وأن انسحاب بلاده من المسرح الدولي كاف لجعله عالماً أكثر استقراراً.
هكذا، راح أوباما يعتذر من القوى العالمية، معتبراً أن مشاكل العالم تسببت بها إدارة سلفه جورج بوش، حصراً، وأن تراجع أميركا، من شأنه أن يؤدي إلى حلول تلقائية.
وفي خطابه الابرز الذي أعلن فيه ما يشبه نهاية "الحرب على الارهاب"، أمام "جامعة الدفاع القومي" في واشنطن العام الماضي، ردد أوباما أن الحروب قاربت نهايتها، وأن واشنطن ستسعى بعد ذلك للاهتمام بشؤونها الداخلية.
على أن رؤية أوباما تشي بأنه لا يرى أهمية للنظام العالمي الذي تم تشييده منتصف القرن الماضي، والمبني على تسيير القوى الكبرى، التي تتصدرها بلاده، للأمن العالمي.
كما تشي رؤية أوباما أنه يعتقد أن سياسته الخارجية يمكن أن تتقلص إلى درجة الدفاع عن النفس، وعن الحلفاء، وفي حال المواجهات العسكرية المباشرة فقط، أي أن الرئيس الأميركي لا يعتقد أن الأزمات التي لا تهدد أميركا أو الحلفاء بشكل مباشر، هي أزمات تستحق أي تحرك أميركي جدي لمواجهتها.
لكن أميركا تراجعت وأزمات العالم لم تنته، وهو ما جعل الرئيس الأميركي في حيرة دائمة من أمره، كل أزمة تأخذه على حين غرة، يسعى بعدها جاهداً إلى استنباط الحلول التي يعتقدها مناسبة. وفي كل أزمة، يردد أوباما أن "لا خيارات جيدة متاحة لديه" وأن "كل الخيارات سيئة".
والواضح أن أوباما لا يعتقد أن هذه الازمات مرتبطة ببعضها أو بأدائه على مدى الاعوام الخمسة الماضية، فإيران لم تكن لتمتحن صبر العالم في مفاوضاتها النووية لو لم تر رئيساً أميركيا متردداً في خطة زيادة القوات في افغانستان، ومهرولاً للخروج من العراق، لا عسكرياً، وإنما سياسياً واقتصادياً كذلك، وهو ما أثار الذعر عند حلفائه الشرق أوسطيين.
ولو لم تكسر إيران هيبة أوباما، لما قامت الصين بتوسيع نفوذها البحري والجوي بشكل احادي، متجاهلة تحذيرات أوباما، ومتسببة بخوف حلفاء أميركا الآسيويين.
ولو لم تضعضع ايران والصين صورة أوباما، لما قام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد مدنييه من دون الاكتراث للمنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، التي صار مسؤولوها يكررون ترجيح ارتكاب الحكومة السورية جرائم حرب.
ولو لم تتقهقر سطوة أميركا إلى هذا الحد، لما اقترب بوتين من اجتياح أوكرانيا، غير عابئ بتحذيرات أوباما من "تكلفة" أعماله، على غرار الأسد الذي لم يكترث لخطوط أوباما الحمراء.
في كل الازمات التي امتحنت الرئيس الاميركي، قدم أوباما ديبلوماسية بليدة ومتشابهة: إدانة، فعقوبات على الافراد، فعقوبات على المؤسسات الحكومية، فخطوط حمراء، فتقاعس عن الالتزام بالخطوط الحمراء، فتراجع. هذه الدبلوماسية غير المجدية دفعت الجمهوريين من خصومه إلى إكثار الحديث حول "قلة خبرة أوباما" و"عدم جرأته".
أما أوباما ومؤيديه، فيرددون أن أزمات العالم ليست مشكلة أميركا، بل مشكلة العالم ككل، وأن على العالم بأكمله تحمل المسؤولية لحلّها حتى لا تتحمل واشنطن وحدها أعباء وتكاليف الحلول.
حول الوضع في أوكرانيا، قال زعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ وحليف أوباما، هاري ريد، أن الكونغرس ليس مستعداً لعقوبات أحادية ضد روسيا من دون أوروبا، التي تبدو مترددة نظراً لحجم التبادل التجاري مع موسكو، وخصوصاً لناحية استيراد أوروبا للغاز الروسي.
صحيح أن أميركا ليست بحاجة إلى غاز روسي، لكنها تصدر إلى روسيا ما يقارب 11 مليار سنوياً، وهي ليست مستعدة لتتخلى عن هذه السوق الصغيرة (مقارنة بصادرات أميركا إلى الصين مثلاً والتي تبلغ 122 مليار سنوياً)، حتى لو كان الموضوع يتعلق بحرية الأوكرانيين أو ديموقراطيتهم أو تخلصهم من هيمنة جارهم المتسلط.
هكذا لن تسعى أميركا إلى إدارة العالم فيما العالم، وخصوصاً دول كالصين، تعلي مصالحها التجارية والمالية على كل المصالح الأخرى. لذا، في أثناء انسحابها من المسرح الدولي، ستكتفي واشنطن بإدارة الأزمات المختلفة، كبيرة كانت أم صغيرة، حتى تصادفها أزمة كبرى تعيدها إلى المسرح الدولي، وهو ما حدث بعد كل انكفائة أميركية عن العالم، منذ الحرب العالمية الأولى، أي قبل قرن من اليوم.
"فيما الولايات المتحدة تتراجع، صار مد الديموقراطية في العالم يتراجع كذلك، وهذا في المدى الطويل أمر مضر بالأمن القومي للولايات المتحدة"، تقول صحيفة "واشنطن بوست" في افتتاحيتها.
"أما بالنسبة للسيد بوتين الذي يفكر بامكانية التقدم -- لنقل نحو شرق أوكرانيا -- فهو سوف يقيس مدى جدية أميركا وحلفائها، لا تصريحاتهم، (كذلك) الصين التي تفكر بخطواتها المقبلة في بحر الصين الشرقي، ستفعل الشيء نفسه، وهذه للأسف هي طبيعة القرن الذي نعيش فيه اليوم"، تختم الصحيفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق