واشنطن - حسين عبدالحسين
ربما لم يفطن العالم العربي الا أخيراً الى تراجع أهميته الجيو استراتيجية على المسرح العالمي. ويمكن تلخيص التراجع على الشكل التالي: في العالم العربي خمس حروب أهلية (العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال) فيما نصف الحكومات العربية تنخرط جيوشها النظامية، او أسلحتها الجوية على الأقل، في اعمال حربية. وسط كل هذه الحروب، انخفض السعر العالمي للنفط الى النصف.
لم تعد للمنطقة العربية، ذات المخزون العالمي الأكبر للنفط والغاز، أهمية كما في العقود السابقة، والأسباب متعددة، أولها انه منذ مطلع هذا القرن، ساهمت التكنولوجيا في استكشاف واستخراج احتياطات جديدة في العالم، خصوصا في أميركا الشمالية. اما السبب الآخر فيكمن في ان الحكومات المنتجة للطاقة تتسابق في ما بينها للتصدير لتمويل نفسها وشعوبها.
ويتزامن تراجع أهمية الشرق الأوسط كمخزن للطاقة مع انتهاء الحرب الباردة ونظامها العالمي، في وقت ينتقل العالم الى نظام دولي جديد تشتد فيه المنافسة، خصوصا بين الولايات المتحدة والصين، على "كتابة قوانينه"، حسب تعبير الرئيس الأميركي باراك أوباما.
والحرب الباردة انتهت فعليا بفوز الرأسمالية وتثبيت نفسها كنظام أوحد للتعاملات المالية داخل الدول وبين الشعوب، لكن فوزها لم يقترن بانتشار الديموقراطية، وفق ما توقع الغربيون، بل على عكس ما توقعوا، نجحت الدول غير الديموقراطية، وفي طليعتها الصين، في تحقيق صعود اقتصادي باهر من دون القيام بأي تغيير لأنظمتها القمعية.
والقوة الصينية لم تصعد وحدها، فمعاملها أبدت شراهة للمواد الاولية والطاقة، فصعدت مع الصين الدول التي تعتاش من مواردها الأولية، مثل البرازيل وروسيا وإيران. وسعت هذه الدول الى ترجمة قوتها المالية الى قوة سياسية على الساحة الدولية.
لكن تجربة الصين لم تحد عما توقعه الاقتصاديون لها، فالنمو الصيني الرهيب حدث بسبب تأخرها، واستند الى رخص اليد العاملة فيها، فتحولت البلاد الى مصنع العالم ومصدره الاول. لكن مع تحسن الوضع الاقتصادي الصيني، ارتفعت اجور اليد العاملة، التي تعاني اليوم من تقلص وشيخوخة بسبب سياسة الطفل الواحد للحد من الانفجار السكاني.
وحتى يستمر صعود الصين، كان المطلوب من البلاد ان تتحول من الصناعة الكمية الى النوعية، وان تتحول الطبقة الوسطى الى طبقة مستهلكة، لكن في الامرين تهديد للنظام الصيني الحاكم، فالنوعية تحتاج الى جامعات حرة تنتج اختراعات وتنتج في الوقت نفسه مفكرين سياسيين قد يطالبون بالحريات. كذلك، من شأن الطبقة الوسطى ان تطالب بمشاركة أكبر في صنع القرار، ما يهدد احتكار الحزب الشيوعي الحاكم للسلطة.
ومع استبدال الصين قيادييها القدماء بجدد، عقد الغربيون الآمال على انتقال الصين من الصناعة الى الخدمات، وهو ما يتطلب اصلاحات سياسية. لكن بدلا من الانتقال من مرحلة الى اخرى، عاد حكام الصين الجدد الى الاساليب القديمة لامتصاص النقمة الداخلية من طريق تجديد العصبية القومية، والحديث عن "حلم صيني"، وتوجيه اللوم الى أميركا والغرب في اي تعثر للصين واقتصادها.
هكذا، بعدما تبين ان نية قادة الصين في التجديد تعوزها الجدية، صار متوقعا ان يتعثر صعودها، وبالفعل، لم تعد الحكومة الصينية قادرة حتى على تحقيق نسب النمو الاقتصادي التي تعلنها مطلع العام، وتراجع النمو الى أدنى مستوياته منذ عقود، فيما الحكم الصيني يحاول، غالبا في الخفاء، تحفيز الاقتصاد.
لكن التحفيز لا يمكن ان يحل بديلا من الاصلاح والانفتاح السياسي، وهو ما دفع الصين الى محاولة الاستناد الى ورقتها الاخيرة، اي ضخامة الكتلة البشرية المتمركزة – لا في الصين وحدها – انما في شرق آسيا بأكمله، اذ تعتقد بيجينغ ان مشاريع التنمية في الدول المحيطة من شأنها ان تحرك الاقتصاد الصيني المتعثر، وان تحسين اقتصادات دول الجوار يخلق اسواقا للصين.
والسباق على الكتلة البشرية نفسها هو ما تسعى اليه اميركا، التي وجدت في خصوم الصين الآسيويين – وما أكثرهم – شركاء لإقامة سوقٍ موحدة من اثنتي عشرة دولة يوازي مجموع اقتصاداتها اربعين في المئة من حجم الاقتصاد العالمي. وبعد "اتفاقية الشراكة عبر الهادئ"، من المرجح ان تبرم اميركا اتفاقية مشابهة مع الاتحاد الاوروبي، ما يلغي افضلية الضخامة الصينية على الاميركيين ويساهم في بقاء واشنطن الاولى عالميا.
على ان الدول التي صعدت مع الصين وتراجعت معها، تعتقد ان تفوقها دوليا ممكن استمراره بالشعارات الاستراتيجية والحذاقة الديبلوماسية. روسيا، مثلا، تعتقد ان بإمكانها اعادة خلق الكتلة الدولية الشيوعية المكتفية ذاتيا، سياسيا واقتصاديا، ولكن هذه المرة تحت عنوان كتلة "الاقليات المسيحية".
لكن افكار رئيس روسيا فلاديمير بوتين تبدو متواضعة، فصغر اقتصاده لا يسمح له بلي الاذرع دوليا، وهو حتى لو اعاد الكتلة السوفياتية، تبقى هذه الكتلة صغيرة نسبياً مقارنة بأميركا والصين والاتحاد الاوروبي. لذا، نرى بوتين يتلهى بحروب صغيرة مكلفة، وعنتريات، وشعارات، فيما عملته تتهاوى واقتصاده يغفو.
إيران، بدورها، تتبنى استراتيجية مشابهة لروسيا، على الرغم من ان امكانات طهران أضعف بكثير من موسكو.
سذاجة التفكيرين الروسي والايراني، والفشل في ربط النفوذ العالمي الجيو استراتيجي بالقوة الاقتصادية الداخلية، دفع السوفيات للانهيار في المرة الاولى، ودفع بوتين الى حافة الهاوية اليوم، وتسبب بأقسى أزمة للإيرانيين. مع ذلك، يصر قادة البلدين على صحة رؤيتهما، التي غالبا ما يغلفوها بشعارات الكرامة الوطنية.
وما لا يتنبه له الروس والايرانيون هو ان اميركا، على قوتها، داست على كبريائها لتفلت من مستنقعين عسكريين، فيما تسعى واشنطن يوميا لعقد اتفاقات تحرير التجارة مع دول العالم، بينما يبدو ان الروس والايرانيين يفضلون المستنقعات العسكرية التي تأتي في الغالب على حساب تجارتهم الدولية.
السباق بين أميركا والصين قائم، فيما الدول الأصغر تحاول انشاء منظومات إقليمية تهيمن عليها. وحتى تتبدى نتائج السباق وتظهر معه معالم نظام عالمي جديد، تعيش الكتلة العربية في أزماتها المستمرة، فيما يبدو ان بعض الحكومات العربية أدركت اننا صرنا نعيش في عالم جديد بقوانين مختلفة، وهو ما يتطلب رؤى متجددة وتغيرات جذرية في السياسات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق