حسين عبد الحسين
لطالما استندت السياسة الخارجية لآل الأسد في سوريا الى التأرجح بين الموقف ونقيضه، وهوأسلوب قديم ومعروف، وغالبا ما تلجأ اليه القوى ذات الامكانيات المتواضعة لتحسين موقعها.
ولا شك ان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أبدع في استخدامه سياسة“المشي على السور”، حسب التسمية الانكليزية، فهو إبتز الايرانيين في ذروة هجومهم العسكري تجاه البصرة العراقية في الثمانينات، واجبرهم على إستجدائه للوقوف في صفهم، ولم يساندهم سياسيا قبل ان يأمر قواته باجتياح “ثكنة فتح الله” التابعة لحزب الله في بيروت، حيث قامت قواته بتصفية عدد من مقاتلي الحزب. بعد ذلك الهجوم، أكد الأسد ان لبنان حصته، وان ايران و”حزب الله” لا يتصرفون فيه الا بإذنه، وهو ترتيب دام حتى اطاح به خلف حافظ، نجله بشار، مع حلول العام 2005.
حاول بشار الأسد تكرار نموذج والده، فقامت اجهزة استخباراته بتوجيه ودعم الانتحاريين، وتسهيل دخولهم العراق عبر الحدود السورية، حيث نفذوا عمليات راح ضحيتها ابرياء عراقيين كثيرين، وبعض الاميركيين. لم يكن هدف الأسد قتل عراقيين، على الرغم من ان رئيس حكومةالعراق السابق نوري المالكي — صديق الأسد اليوم — طالب الأمم المتحدة وقتذاك بمحاكمة الأسد بتهم دعم الارهاب. كان هدف الأسد في خلق الارهاب ودعمه ان يجبر الاميركيين على زيارة دمشق ليستجدونه التعاون ضد الارهاب.
وعلى شاكلة المثالين اعلاه، من حافظ وبشار، سعى الأب وابنه دائما الى إقامة تحالف مع الايرانيين، لكنه لم يكن يوماً تحالفاً صادقاً، بل كان مجرد نكاية بالعرب والاميركيين، ووسيلة لاجبارهم على ارضاء حاكم دمشق، مالياً وسياسياً.
لكن بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011 وقرار الأسد القضاء عسكريا عليها، وفشله في ذلك نظرا لتواضع امكانياته، لجأ الأسد الى تحالفه المزعوم مع الايرانيين. وهب الايرانيون لانقاذه،لكنهم — على غرار الأسد — لم يفعلوا ذلك حباً به، بل هم رأوا فرصة لتحويله الى صورة يحركونها هم، ويقفون خلفها، ويمسكون فعليا بسوريا، خصوصا في المحافظات الجنوبية المحاذية للاراضي السورية التي تحتلها اسرائيل. وايران لا تسعى للسيطرة على الأرض السورية كمنفذ للقضاء على اسرائيل، وانما لاستخدامها — على غرار الأسد الاب والابن — لابتزاز الاسرائيليين، ومن خلفهم اميركا وباقي القوى العالمية.
على انه بين ايران والأسد، تفضّل اسرائيل ان يمسك الأسد بالارض السورية، وهي سياسة كانت متعذرة في زمن الرئيس السابق باراك أوباما، صديق ايران وصاحب العلاقة المتوترة مع الاسرائيليين. لكن مع وصول دونالد ترامب الى الحكم، راحت اسرائيل تبني جبهة عالمية لاقصاء ايران ومليشياتها، على الأقل عن الجنوب السوري. لكن الاقصاء يتطلب البديل، وهو ما يجبر اسرائيل — لا على القبول فحسب بالأسد صاحب السمعة الدولية الملطخة- وانما دعم الأسد.
هذه التغييرات الدولية تعني ان نجاة الأسد تحتّم تخليه عن ايران، واقترابه من اسرائيل قدر الامكان.في العقد الماضي، اقترب الأسد من الاسرائيليين عن طريق السوريين الاميركيين، وخصوصا اليهود منهم، ونجح ذلك فعلا في حمل اسرائيل على كسر العزلة الدولية التي كانت مفروضة على الأسد. هذه المرة، لا يكفي السوريين الاميركيين او اليهود الاميركيين للقيام بالدور، بل المطلوب هواقتراب أكبر من اسرائيل نفسها.
هكذا، فتح الأسد ابواب المناطق التي تسيطر عليها قواته لزوار اسرائيليين، وقام هؤلاء بجولات ميدانية في حلب وحمص ودمشق، وزاروا سوق الحميدية التاريخي في العاصمة السورية،وربما دوّن بعضهم ملاحظاتهم حول اماكن انتشار قوات الأسد في عموم البلاد، وأماكن انتشار مقاتلي حلفائه، حتى تعرف اسرائيل صديقها من عدوها في حال تطورت الامور وتطلبت تدخلاًعسكرياً اوسع.
وهكذا، صارت ايران في سباق مع الزمن لتثبيت وجودها داخل سوريا بغض النظر عن الأسد، وهوما لفت اليه الصديق والزميل مهند الحاج علي في مقالته في "المدن" مطلع هذا الاسبوع، حول بوادر قيام“حزب الله” سوري بزعامة رجل الدين محمد علي المسكي.
قد يفترق الأسد عن ايران لانقاذ نفسه، وقد تمنحه ايران مساحة للمناورة — على غرار المرّات السابقة — وتتفهم ضرورة تقربه من الاسرائيليين للخروج من مأزقه، على اعتبار انه بعد كل خروج، ما يلبث الأسد ان يلتف ويعود الى التأرجح، فيقترب من الايرانيين مرّة ثانية ويحمي ظهيرهم بحمايته جزءاً إستراتيجياً من خط طهران بيروت. لكن هذه المرة، يبدو هامش المناورة لدى الأسد ضيقا جدا، وهو ما يجبره على الذهاب في تأرجحاته الى اماكن كان الاقتراب منها، حتى الماضي القريب، بمثابة خيانة موصوفة لدى “محور الممانعة” المزعوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق