الثلاثاء، 15 سبتمبر 2020

الصراع مع إسرائيل خارج الإجماع العربي

حسين عبدالحسين

حتى "جامعة الدول العربية"، المنظمة التي يسخر غالبية العرب من بياناتها الخشبية الببغائية، تغيّرت، وفتحت باب السلام العربي مع إسرائيل، فيما بقي موقف القيادة الفلسطينية والنخبة عالقا في زمن "خلي السلاح صاحي" ولاءات الخرطوم الثلاث: "لا سلام مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل" قبل "أن يعود كل الحق لأصحابه".

بين أعضاء الجامعة الاثنين والعشرين، عارضت التطبيع مع إسرائيل دولتان، وهما الصومال واليمن، وهما من أكثر الدول الفاشلة في العالم. حتى لبنان، الذي تحكمه ميليشيا "حزب الله"، امتنع عن التصويت لارتباط مصالح لبنان بالإمارات ودول الخليج، حيث تعمل جالية لبنانية ضخمة تشكّل الأموال التي ترسلها إلى لبنان ربع الناتج المحلي السنوي. ومثل لبنان فعلت تونس والجزائر والعراق، الذي تنتهج حكومته سياسة عدم انحياز وتسعى للتخلص من هيمنة إيران.

الدول الأربعة عشر المتبقية (عضوية سوريا معلقة)، بما في ذلك الخرطوم ـ التي تحمل اللاءات الثلاثة اسمها ـ لم تصوّت ضد التطبيع، ولا هي امتنعت عن التصويت، بل التزمت إجماعا عربيا لم يعد يرى في الصراع مع إسرائيل أولوية، بل صار يعتقد أن السلام في مصلحة العرب أكثر من المواجهة.

على عادتهم، لم يقرأ الفلسطينيون ـ القيادة والنخبة ـ الأحداث والتغيرات بشكل صحيح، بل هم مضوا في مقارعة الغالبية العربية، وهددوا بإنهاء عضوية فلسطين في الجامعة، وكأن تسجيل الموقف السياسي أهم من المصلحة الفعلية للفلسطينيين. 

لنفترض أن كل هذه الحكومات العربية متآمرة، كيف يعتقد الفلسطينيون أن بإمكانهم المضي في المواجهة فيما عدد الحكومات المؤيدة لمواصلتهم الصراع، حول العالم، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين؟ حتى لو كان الفلسطينيون مظلومين تماما والإسرائيليون ظالمين بالكامل، كيف يمكن إحقاق الحق في جو إقليمي ودولي غير مؤات للفلسطينيين؟

المقالات الفلسطينية الصادرة في إعلام السلطة عزت التغير العربي إلى تغير في الموقف العربي الرسمي فحسب، لا الشعبي، وكأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، المنتخب مرة واحدة منذ 15 عاما، ومثله حكومة "حماس"، التي فازت في انتخابات وحيدة قبل 13 عاما فتسلمت السلطة في غزة ولم تتركها، يعكسان الآراء الفلسطينية المتعددة.

لا سبب للاعتقاد أن الشعوب العربية، لو قيّض لها الاختيار، لاختارت استمرار الصراع مع إسرائيل، بل الأرجح أن معظمها سئمت الحروب والصراعات، خصوصا التي تعيش منها في حروب سقط فيها عرب أكثر بكثير من ضحايا الصراع مع إسرائيل، مثل في لبنان وسوريا والعراق والسودان واليمن وليبيا. شعوب العرب تسعى لعيش كريم، في أمان وبحبوحة في أي بقعة على وجه الأرض، إن في لندن أو في دبي، ولا سبب يمنع أن تكون بيروت وبغداد ودمشق آمنة ومزدهرة مثل أبوظبي والرياض والمنامة والدوحة، بدلا من مواصلة صراع لم يُثمِر في الأعوام السبعين الماضية، ومن غير المتوقع أن يُثمِر في المستقبل المنظور.

ثم يأتي دور المثقفين والنخب الفلسطينية. هؤلاء تعاني حجج غالبيتهم مشاكل جمة، أولها عدم توخي الدقة، وثانيها الارتباك في فهم دور المثقف والنظر إليه بمثابة بوق يناصر الرأي السائد. في أحد المواقع الفلسطينية الأكثر حصافة، نشر "ناقد ومترجم وأكاديمي فلسطيني" مقالة عن "التطبيع الثقافي". بسهولة وبدون مقدمات، سقط المثقف المذكور في فخ الأخبار المغلوطة، فكتب أن النشيد الوطني الإسرائيلي يتهدد "أعداءه في بابل ووادي النيل بأن يجعلهم يرتعدون عندما تنغرس رماح صهيون عميقا في صدورهم". يمكن لأي باحث أن يطالع كلمات النشيد الإسرائيلي على موقع الكنيست ليرى أن هذه العبارة من نسج الخيال.

يتابع الكاتب أن مقاطعة المثقف العربي لإسرائيل مبنية على "التزام أخلاقي ثابت، وانحياز تام لا مواربة فيه لمصلحة شعبه ولقيم الحق والعدالة، من دون الالتفات إلى أي مكاسب أو خسائر" شخصية. هنا، يغرق الكاتب في عدد من التناقضات، أولها أن انحياز أي مثقف لمصلحة شعبه قد لا يكون انحيازا للعدالة. لنأخذ المثقفين الإسرائيليين الذين ينحازون لمصلحة شعبهم، ولكن لا ينحازون ـ من وجهة النظر الفلسطينية ـ للحق والعدالة. انحياز أي مثقف لشعبه ليس بالضرورة انحيازا للعدالة، بل على المثقف عدم الانحياز أبدا، واستخدام أدواته المعرفية والفكرية في الدفاع عن الرأي الذي يراه الأنسب، وقد يكون هذا الرأي موافقا لرأي غالبية شعبه، وقد يكون معارضا. هكذا هي النخبة المثقفة، وإن لم تكن كذلك، أي مستقلة في رأيها، تصبح مثل العامة، تسير في ركاب الرأي السائد، وتستخدم أدواتها الفكرية للترويج للسائد، وهذا بمثابة دعاية، لا نقاش فكري من الذي يخوض فيه المثقفون.

ثم أن المصلحة العامة ترتكز على حساب "المكاسب والخسائر"، لا على "الالتزامات الأخلاقية الثابتة". من الضروري ربط السياسات العامة بضوابط أخلاقية، ولكن تجاوز هذه الضوابط مسؤولية ناس في زمانهم، وليست مسؤولية سليليهم. مثلا، قبل أكثر من قرن، ارتكب حكام تركيا مجازرا بحق الأرمن. هذا لا يعني أن أتراك اليوم مسؤولون عما ارتكبه أجدادهم ضد أرمن الأمس. وهكذا في فلسطين وإسرائيل: معظم ناس اليوم ورثوا هذا الصراع ولم يختارونه، والحل يكون بتقديم أفضل الممكن لمستقبل واعد للجميع، لا العودة الى الماضي واستئناف الحياة الفلسطينية من حيث انتكبت، أو لا حلّ أبدا.

الصراع العربي الإسرائيلي انتهى، وإسرائيل باقية. خيارات الفلسطينيين هي إما السلام مع عيش كريم، أو لا سلام ولا عيش. أما السلام المشروط بالعودة إلى مساء 4 يونيو 1967، فسلام محكوم بموازين قوى إقليمية وعالمية غير متوفرة، ولا يبدو أنها ستتوفر قريبا، ما يترك للفلسطينيين الهتافات والشعارات، والمزيد من البؤس. أما العرب، فعاش منهم كثيرون في البؤس، وحقهم على الفلسطينيين اليوم أن يستأذنوهم ويخرجوا من الصراع، بغض النظر عمّا يقرره الفلسطينيون.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008